ردود أفعال

ردود أفعال

محمود حمدون

اللوحة: الفنان المصري محسن أبو العزم

نظرت للساعة بشاشة هاتفي, كانت تقترب من الثانية بعد الظهر, كنت أستند إلى جوار باب الخروج, تجاورني فتاة تضع سماعة بأذنيها منشغلة عن العالم, تبتسم وتعبس وما بين هذه وتلك جزء من ثانية وهي تنظر شاشة هاتفها.

على يساري كهل يرتدي قميص ناصع البياض وبنطال أسود وينتعل حذائًا رياضيًّا بلون قميصه, مشدود القامة, يختلط سواد شعر رأسه الكثيف ببياضه, فرسم أمامي لوحة لا تتفق مع اللحظة الآنية, كان يحتضن بعينيه امرأة واسعة العينين تجلس أمامه, يمسك مقبض الباب بيساره بقوة, بيمينه يذود عن رفيقته الهوام ونظرات العيون, يتحسس أناملها الرقيقة بأصابعه السمراء, يهمس لها فتضع يدها على فيها من الضحك.

 قلت ربما يلقي على سمعها بنكات لاستهلاك الوقت أو يغازلها بكلمات تطرب لها أذنيها.. قطع متابعتي لهما, صوت من خلفي غليظ: حضرتك نازل؟ 

فتنبهت, نظرت لجدار المحطة المصمم على طرز معماري لا أعرف كنهه, قرأت اسم المحطة, التفتُّ إليه وقلت: أعتذر عن حجب الباب, سأنزل هنا.

غادرت العربة, خلفي سيل من البشر فأندفع بتاثير قوة ضاغطة من ورائي, على مقربة رأيت الكهل يلف ذراعه حول خصر المرأة, كانت تتلوّى محاولة الهرب ووجهها أصبح بلون تفاحة حمراء شهية, ندّت آهة وصلت إليّ على رغم منها, سمعتها تهمس بصوت مبحوح: كفاية, أيقنت أن شريكها قد أشعل بعمد بركانًا يوشك أن ينفجر في غير أوانه أو مكانه.

 ما إن وطأت الرصيف إذا بعشرات الحقائب الجلدية الصناعية من أحجام مختلفة بعضها حريمي وأخرى للرجال, هدايا رخيصة السعر والجودة متناثرة بطول الرصيف، بعضها داسته الأقدام دون قصد أو غير ذلك, لقد تباينت ردود أفعالنا, فمنّا من تأسَّف لحال البائع السريّح, اقشعر بدنه لرؤية بضاعته الملقاة على رصيف محطة “مترو الدقي”، أو غير مشفق عليه, يرى أن نظافة المكان والحفاظ عليه يدعوان لمنع الباعة الجائلة من فرش متاعهم وبضاعتهم, فغض الطرف عن بائع يعني احتلال المكان غدًا, ليصبح المكان بين عشية وضحاها سوقًا موازيًا ” للعتبة”.

كنت بسبيلي للخروج إلى سطح الأرض, مغادرًا الرصيف إلى عودة مشمولة بهروب من العاصمة بزحامها وضجيجها بعد أن أتممت ما جئت من أجله. حينما رأيت حوارا من طرف واحد, يصرخ البائع الشاب بعزم ما فيه يندد بحياته البائسة, بجواره بضاعته شاهدة عليه وعلى الواقعة.

 غير بعيد عنه يقف “عسكري حراسة”, ينظر حوله كأنما يستغيث من الركاب بالركاب, بصمته الذي أطبق على جفونه, كان يصرخ مخاطبًا وجدان الجميع: قمت بواجبي, لم أفعل له شيئًا غير أن نهرته كثيرًا من قبل, ثم منعته منذ برهة من فرش بضاعته على الرصيف, حذّرته من مخالفة التعليمات؟

توقف يزدرد ريقه بصعوبة, ثم أكمل: أدري أنه قطع تذكرة شأنكم جميعًا, لكن لا يحق له أن يستغل المكان على خلاف ما نعرف, ثم نظر حوله يتلفّت, يتطلّع إلى وجوهنا ليرى أثر حديثه علينا, فما وجد غير جمود في الملامح, قلة اكتراث بالحادثة, نظرات تهوين وتسخيف لفعلته, أجزم أن خوفه عندئذ قد بلغ عنان السماء إثر تصاعد الأداء الدرامي للشاب الجائل, بغريزته خشي فرد الأمن غضبة الناس من حوله, بخاصة وأن النظرات تحمل بين طياتها غيظًا لا نهائيا, بدت أنها تحمّله تَبِعات ما يحدث من خناق اقتصادي يأخذ برقابهم, يرونه الأقرب إليهم ومندوب عن مسئولين مجهولين لا يرونهم إلاّ عبر شاشات التلفاز وعلى الجرائد فمن غيره يُفرغون طاقة عنفهم فيه؟

محاكمة تتم في سكوت قاتل.. هكذا استقر في يقين “العسكري” النحيل, فدار حول نفسه دورة ثم أخرى, لست ادري هل كان يبحث عن معين يشد عضده أو منفذ يحقق له بدوره خروجًا آمنًا يتيسّر فقط لمن يعلوه في المقام والرتبة؟ كل ما أدركته أن برودة هواء التكييف الجبارة, نسمات الخريف لم تسعفه في الحد من نهر العرق الذي انساب من فروة رأسه وصولًا لأخمص قدميه ثم تسرّب حتى أغرق البضاعة المبعثرة هنا وهناك.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s