أيمن جبر
اللوحة: الفنان الفرنسي إدوارد مانيه
احتشد الجمهور في المدرجات وهم يترقبون خروج المصارع الشهير الذي سوف يواجه أشرس الثيران، المتعة والإثارة المنتظرة بلا حدود، فالمصارع هو نجم النجوم عبر السنوات الأخيرة.
توسط المصارع والثور الساحة، هلل الجمهور وعلت أصوات الموسيقى الحماسية، ثم ساد السكون وحبست الأنفاس وثبتت عين الجميع على الساحة، وفي رشاقة واستعراض بسط المصارع يده بالراية الحمراء في مواجهة الثور، والجميع ينتظر بدء السيناريو المثير.
ووسط دهشة الجميع وقف الثور ساكنا بلا حركة وبلا انفعال، والمصارع المتوتر يحاول أن يضاعف الإثارة بالتلويح بالراية وهو يقترب من الثور الغير مبالي بها ولا بصراخ وهتاف الجمهور، يزيد الحرج وينتشر الصمت والذهول بين الجمهور، فمجرد سكون الثور لدقائق أفسد عليهم كل شيء وأنذر بتسرب الملل للجميع.
هل هذا الثور أعمى؟ مخدر؟
هل سيفسد عليهم حفلتهم؟
ولكن الثور لم يخيب ظنهم ولم يحرمهم من الإثارة، فلم تكن هذه خطته.
فجأة بدى وكأن الثور استيقظ لما حوله وانتبه لدوره، فتراجع خطوتان ثم تقدم في سرعة هائجة إلى الأمام، وأخيرا تنفس المصارع واطمئن، وانتظر الثور وهو يتقدم إلى الراية، فإذا بالثور ينحني إلى المصارع فينطحه في مقتل ويطيح به في الهواء ثم يسقط طريحا بلا حراك.
ارتبك الجميع وانتشر الهلع وأسرع الفرسان بالتجمع أمام الثور وقاموا بقتله في الحال، مات الثور مبتسما، فقد انتقم وسخر من الجميع.. وأحبط الجميع.. وأعطى درسا للجميع.
توقف العرض لأسابيع، وخاف الأثرياء الذين يتربحون من هذه العروض أن يؤثر هذا الحادث على تعلق الجمهور بالمصارعة، فأقاموا عرضا في نفس الساحة بثور آخر وفارس آخر شهير، وتكررت المأساة.
فمن الصعب التنبؤ بما ينتويه الثور حين يهيج وينطلق للأمام، هل سيتجه للراية أم للمصارع؟، والدروع التي يرتديها الفارس لا تجدي مع قوة قرون الثور.
وهنا أدرك الناس أن تلك المصارعة التي استمرت مراسمها قرونا طويلة، تستند أساسا على الثور، فلولا أن رد الفعل الغريزي من الثور مضمون لما استمرت هذه المصارعة قرونا متتالية إلى اليوم.
فهل امتلكت الثيران بعض وعي وأدركت الحيلة؟
وامتلاء الناس رعبا لتخيل تطور هذا السيناريو، فهذا التمرد من الثيران ينذر بمستقبل شديد الخطورة، فالثور ليس الحيوان الوحيد الذي يستغله الإنسان.
ماذا لو أدرك الجمل والخيل وبقية الحيوانات المُذلة أنها أقوى من الإنسان؟
ماذا لو تمردت الخرفان فامتنعت عن الطعام وفضلت الموت جوعا على الموت ذبحا؟
ماذا لو امتنعت الحيوانات عن الإنجاب حتى ترحم سلالتها من التسخير والذبح؟
ماذا لو أسرع الدجاج كلما باضت بيضة، بالتجمع لنقر البيضة وكسرها حتى لا تخرج دجاجا أخر للذبح.
ماذا لو تمردت الحيوانات في السيرك؟
ماذا وماذا وماذا!!
ماذا لو نزع الله الغريزة التي هي فتيل الحياة، عن الحيوانات والطيور فتمردت على سيدها الإنسان؟
وما أكثر آيات التسخير في القرآن الكريم.
“وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ” [الجاثية: 13]
فالحيوانات تُسخَّر للإنسان بالوهم، فتجهل قوتها وتضخم من قوة الإنسان، وكذلك الإنسان يُسخَّر لغيره بالوهم، فيجهل نقاط القوة في نفسه ويستهين بها ولا يستخدمها وفي نفس الوقت يضخم قوة الآخر ويضاعف منها ويخضع لها ويُذل.
توقف نشاط المصارعة زمنا لعدم توفر المصارع الذي يغامر بنفسه، وأسقط في أيدي الناس.
وفي ليلة نام فيها الرجل الطيب عبد الرحيم متوضئا كعادته، ثم رأى في منامه ثورا يمشي بين الناس ويتكلم بكلام لا يصل إلى سمعه، فهرع إليه مذعورا وسأله هل أنت من علامات القيامة؟ هل أنت الدابة التي سيخرجها الله لتكلم الناس؟
۞ وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82) ا لنمل
خاطبه الثور وقال: لا لست أنا، ولكن الله أراد مني أن أوصل رسالة لهؤلاء البشر الذين لا يفقهون، فأغلب الناس يندفعون استجابة لراية يلوحها الأشرار لهم، فينطلقون يمينا ويسارا إلى حتفهم وبؤسهم، فأقول لهم أنا حيوان بلا عقل، وقد أعذر عندما تثيرني راية أتبعها إلى حتفي، فما عذركم يا بني آدم؟، أخبرهم أن الثور سيعود إلى غريزته وسينزع منه الوعي ثانية، فماذا ستفعلون أنتم بوعيكم؟
صحا الشيخ من نومه وقد حفظ الرؤيا وفهمها، وأعلن في الناس ما سمع، ورغم عدم إيمان الناس بما يقوله، إلا أنهم اختبروا الأمر فوجدوا الثور يعود لسابق عهده، ونشطت المصارعة من جديد وعاد الناس أيضا لسابق عهدهم، وظل الشيخ عبد الرحيم يقول في الناس ويذكرهم، ولكن الوعي عزيز.