المغتصبون

المغتصبون

أيمن جبر

اللوحة: الفنان الأميركي يعقوب لورانس

جلس الأستاذ “كريم” في غرفة المعيشة عقب تناول الغداء، حيث اعتاد أن يتوسط أبناءه في أنشطتهم المسائية، جلس على مكتبه يقرأ في كتاب معرفي، بينما زوجته على الأريكة تساعد الابنة الصغرى في المذاكرة، ولداه جالسان على المنضدة الكبيرة في وسط الغرفة، كل منهما منهمك في أداء ما عليهما من واجبات مدرسية.
أخرج “كريم” وجهه من بين صفحتي الكتاب، وأخذ يقلب النظر بين أسرته الصغيرة، فيشعر بامتلاء قلبه بالشكر لله، والرضا عن نفسه، فما تلك البركة في أولاده وزوجته إلا نتاج المال الحلال، فقد أمضى “كريم” ثلاثين عاما في التربية والتعليم، كان همه الأكبر أن يحفظ ضميره مستريحا، فلا يقبل ما يلوثه، ولا يمرر ما يجرحه أو يفسده، ولهذا يَنسب “كريم” بر أولاده له وتوفيقهم في الحياة؛ إلى هذا الحرص البالغ على الحلال وراحة الضمير.
تسلم “كريم” في الإدارة التعليمية التي يعمل بها ترشيحا من الوزارة، فنظرا لسيرته العطرة رُشِّحَ عضوا في لجنة عليا لمكافحة الفساد، استبشر “كريم” وتفاءل لأنه سوف يشارك بفاعلية في تطهير البلد من الفاسدين.
هذه اللجنة تقوم بالإشراف على غرف الكونترول واللجان الخاصة بامتحان من لهم ظروف استثنائية.
بعد يومين من العمل الروتيني الطبيعي جاءته الموظفة المسؤولة عن تنسيق أعمالهم، وعرضت عليه ظرفا مغلقا متضخما وسخيا،  سألها عن مصدر هذا الظرف، فضحكت لتداري حرجها ثم قالت: “هي هدايا بريئة بدون غرض، يقدمها الأهالي لنا كتعبير عن تفهمهم لمشاقنا في رعاية نزاهة العملية الرقابية”
وكي تُرغبه وتُهون الأمر عليه، قالت: “إن الجميع قَبِلَ الظرف ولم يتبق سواك”.
قال لها “كريم” وهو متجمد الوجه وحريص على ألا يُطلق مشاعره في وجهها: “أقدم خالص شكري للأهالي الكرماء، ولكني لا أرى أنني أستحق هذا الظرف لأني أقوم بواجبي وأتلقى مقابله راتبي” 
فوجئت السيدة بالرفض القاطع من “كريم” رغم محاولاتها المتكررة لحثه على إعادة التفكير، وأخبرته أن هذا يحدث منذ سنوات وأنه لم يرفض أحدٌ من قبل هذا الظرف.
ومع ذلك أصر “كريم” على الرفض، ولم يُظهر في كلامه ولا نظرته أي لوم لمن قَبِلَ الظرف من زملائه.
استسلمت السيدة لتصميمه، ومنذ تلك اللحظة وحتى انتهاء عمل اللجنة، عُهِدَ إلى “كريم” بالمهام البريئة والبعيدة عن الشبهة، ولم تتضرر اللجنة، فطالما قبل الجميع الظرف ما عدا “كريم”، فما زال في اللجنة أولاد حلال يمرروا الفساد؛ كما يمر السكين في قطعة الزبدة، وكانت المرة الأولى والأخيرة التي يُدعى فيها كريم لتلك اللجنة.
انقلبت الدنيا ولم تقعد في وزارة التربية والتعليم، وصلت شكاوى كثيرة تشتكي من أن امتحانات الملحق الخاص بالثانوية العامة يتم بيعها علنا في منطقة شرق برنجان التعليمية، لم يكن هناك خيار سوى أن يتم تشكيل لجنة تحقيق.
ولا بد أن تكون من أنزه وأكفأ الشخصيات، وأمام الضغط الشعبي والهجوم الإعلامي تشكلت اللجنة وتم اختيار “كريم” ضمن أعضاء تلك اللجنة، فشرط نزاهة أعضاء اللجنة لم يكن بالإمكان تجاوزه، والضغوط لا قدرة على مقاومتها.
في ليلة تكليف “كريم” بالمهمة وبعد العودة من العمل وأثناء تواجده في المنزل جاءه اتصال تليفوني من مصدر مجهول، لم يُعَرِّف نفسه، لم يَستهل كلامه بمقدمات، فقط تأكد أن الذي يتحدث إليه هو “كريم”… ثم قال:
“أنصت لي يا مكافح الفساد”، “هذه الامتحانات كلفتنا ملايين لا تستطيع عدها ولن نسمح لمثلك أن يُفسد الأمر علينا”
“حافظ على أولادك” “وإلا!!”ثم أغلق الهاتف في وجهه.
كان هذا الاتصال يمثل زلزالا “لكريم”، فالتهديد واضح  واللهجة آمِرَة ومتوعدة، بل ومغموسة بالاحتقار والتعالي والثقة، ونحن في زمن ينزوي فيه الشرفاء ويتقدم المتسلقون والانتهازيون، وقد قالها من قبل أكبر الرؤوس في مصر:
“الفساد للركب”، حتى هذا الوصف أصبح متواضعا كثيرا أمام الواقع الحالي، فالفساد ربما طال الأنوف، بل وامتلأ الفم بالماء الوسخ.
تفكر “كريم” طويلا، “من يضمن لي سلامة الأولاد؟” “من الذي أشتكي إليه ويضمن سلامتى وأسرتي؟”، وكان الجواب بديهيا، فالفساد موزع من أعلى لأسفل، وربما من يتعهد بحمايته يكون تحت سلطة فاسد فيجبره على إيذاء أولاد “كريم”.، ففوضى الفساد بلا خريطة تحدده والسرطان منتشر في كل الجسد.
لم يستطع “كريم” النوم ولم يجرؤ على مصارحة أي إنسان بالمكالمة ولم يبلغ الشرطة أو الوزارة.
في اليوم التالي، تجمع أفراد اللجنة مبكرا في المدرسة، تجهزوا للمغادرة إلى موقع المدارس التي ستجرى فيها الامتحانات لرصد الحقيقة، جلسوا منتظرين على مائدة الاجتماعات المستديرة، حاول “كريم” النظر في عيون زملائه، ربما أفشت الحيرة في عيون أحدهم عن تلقيها نفس التهديد الذي تلقاه “كريم”، لكن لم يشاهد سوى رؤوسا منحنية تنظر لأسفل متحاشية التقاء العيون، وأجسادا متوترة ومرهقة من الأرق، وأفواها مغلقة لا قدرة لها على إدارة حوار.
كأنهم جميعا يستعجلون تقيؤ تلك المهمة سريعا ثم يعودوا سالمين لحياتهم التي كانت هادئة، وحينها سيعتبرون أن تلك اللجنة مجرد كابوس ثقيل يجب أن يتناسوه، وبذلك فَهِمَ “كريم” أنه ليس الوحيد الذي تلقى التهديد.
صعدوا الحافلة التي أقلتهم للمدارس التي بها لجان الامتحان.
قامت بإنزالهم تباعا وعلى دفعات أمام كل مدرسة، نزل “كريم” مع زميلين في إحدى المدارس، شاهدوا إجابات الامتحان توزع بوقاحة علنا خارج المدرسة والطلاب يتزاحمون حول الباعة هنا وهناك، لم ينظر “كريم” إلى زميليه ودخلوا المدرسة سريعا وعلى رؤوسهم الطير.
قاموا بتوصية القوة الأمنية المشددة، بأن تمنع أي تجاوز وأن تجلب لهم أي مخالفة، وأوصوا المراقبين بأن لا يتساهلوا أمام أي حالة غش من الطلاب؟ وقاموا بواجبهم “داخل المدرسة” كما ينبغي!
مر اليوم بسلام، في مدرستهم وفي بقية المدراس. اجتمعت اللجنة في نهاية اليوم واشتركت في كتابة التقرير الجماعي، كتبوا في شهادتهم “أنه لا يوجد بيع للامتحانات داخل المدرسة”.. نعم.. داخل المدرسة! فاللجنة لم تُبعث للجري في الشوارع وراء الأولاد!، انتهت المهمة؛ ولا لوم على الضمير فنصف الحقيقة التي كتبت في التقرير صادقة، والنصف الآخر الذي لم يكتب لن يسألهم أحد عنه، وأفلتت اللجنة من المهمة الانتحارية بسلام.
عند تصحيح الأوراق، تم استدعاء نفس اللجنة لاستكمال المهمة الرقابية للإشراف على عملية التصحيح، تم استقبالهم بحفاوة ووضعت لهم مقاعد مريحة في غرفة مكيفة.
في البداية جاءتهم الأوراق المطلوب التحقيق فيها، أوراق مكدسة في صناديق ومكتوب عليها:  “شرق برنجان التعليمية”، تم التصحيح بتدقيق شديد، ولم ترصد اللجنة أي مظاهر لغش جماعي، فعادة يكون الغش الجماعي متمثلا في الإجابات المتطابقة في لجنة ما.
أثلج قلب أعضاء اللجنة بذلك، لأنهم غير مجبرين على مخالفة ضميرهم، فقد أراحهم القدر من تلك المهمة الشاقة، فالإجابات طبيعية ومتفاوتة ومختلفة.
بعد ذلك جاءت أوراق للجنة أخرى مكتوب عليها “غرب برنجان التعليمية” فقاموا بتصحيحها، وهنا كانت المفاجأة، الإجابات متطابقة تماما وكأنهم جميعا نقلوا الإجابة من ورقة واحدة، هنا أدرك الحضور الحيلة، فالملصق الخاص بالمنطقتين قد تم تبديلهما.
فَهِمَ كل منهم ذلك بسرعة ولم يجرؤ أحدهم أن ينظر بجانبه، مرت اللحظات ثقيلة حتى تم الانتهاء من التصحيح، قامت اللجنة بكتابة التقرير النهائي وذكر فيه؛ “أنه لم يُلحظ أي آثار لغش جماعي بأوراق إجابة منطقة شرق برنجان التعليمية والتي هي موضوع الشكوى”.
وقع الحضور جميعهم وكأنه اقتراع سري لا تتقابل الوجوه ولا العيون، فقط أصوات أشبه بالهمهمات تنتقل بينهم تطلب التوقيع، لم يكن الضمير مستريحا تماما ولكنهم لم يقصروا لأن التقرير صادق، أما بالنسبة للغش الجماعي الذي شهدوه؛ فلم يتقدم أحد بالشكوى بشأنه، ولهذا هم ليسوا مجبرين على فتح تلك الطاقة الساخنة من الفساد.
وكما قال الأب للفنان “سعيد صالح” في الفيلم العربي؛ “عش جبانا تمت مستور”.
غادر الجميع إلى بيوتهم بسلام وهم مطمئنين تماما على أن بلدهم مازالت بخير، وأن التعليم الذي هو مفتاح نهضة وانحطاط الأمم ما زال بخير… “كله زي الفل”.
بينما يجلس “كريم” في غرفة المعيشة وعقب تناول الغداء، والأولاد حوله، سمع جرس الباب وقام أحد الأبناء لمعرفة من الذي جاء في مثل هذا الوقت الغير مناسب، نظر من العين السحرية فلم يجد أحدا ففتح الباب ونظر في كل مكان ولكن لم ير أحدا، وعندما هم بغلق الباب ثانية، لمح تحت قدمه ظرفا فانحنى وأخذه وأعطاه لوالده، فتح “كريم” الظرف، فوجد فيه رزمة مالية سخية جدا ومعها رسالة مكتوب فيها: ” نحن لا نضيع أجر من أحسن عملا”، أصاب “كريم” هذا التعبير برجفة شديدة وقال في نفسه: “ما هذا الجبروت؟ ..يستشهدوا بآية قرآنية على لسان الله تعالى في مثل هذه الخطيئة!
كان الظرف في يد “كريم كقطعة نار، لم يفكر كثيرا وقام بتوزيعه على بعض الفقراء ثم عاد لبيته وهو يظن أنه قد وضع ختاما أخيرا لتلك المحنة القذرة التي أقحمه الأوغاد فيها دون استئذان وكادوا أن يُكدروا عليه حياته.
ومَنَّى نفسه أنه سوف يعود سليما طاهرا قرير العين ومرتاح الضمير.
في المساء لم يستطع “كريم” النوم، هناك شيء غريب ينتاب مشاعره، هناك طرف مدبب ينغزه في ضميره بلا توقف، غُمست حياته ومشاعره بالكدر، وغمرت كل شيء، الطعام صار كريها يراه وقد نُثر عليه من تراب الأرض، لم يعد له رغبة فيه فذبل جسده ووهن، نظرته إلى الأولاد في غرفة المعيشة وهم متفرقون حوله لم تعد بهذا الصفاء والرضا ولم يعد يراهم بعين الأمس، ينظر إليهم ويتخيل أن قد نثر على رؤوسهم ووجوههم من تراب الأرض، حتى حين ينظر لنفسه في المرآة يشاهد هذا التراب وقد ملاء رأسه وعفر وجهه وملأ حلق لسانه.
وتذكر الشعر القائل على لسان نبي الله “آدم عليه السلام” حين فقد هابيل:


تغيرت البلاد ومن عليها

فوجه الأرض مغبر قبيح

تغير كل ذي لون وطعم

وقل بشاشة الوجه الصبيح.


مرت الأيام ثقيلة على “كريم” وقد تكدر العيش والخاطر، هؤلاء القوم اغتصبوا حياته وأجبروه إلى امتحان شديد الصعوبة، أقحموه في هذا الامتحان الملوث بعد أن توهم أن العمر قارب على الانتهاء وأنه نجح في امتحانات الحياة.
أقحموه في امتحان وسؤال إجباري، وكأنه السؤال الأخير في برنامج من يربح المليون، إما يفقد الكل أو ينال الجائزة الكبرى، ولكن لم يكن لديه خيار الانسحاب من السباق.
أما وقد أصبحت الحياة مُتْرِبَة، وتعكر كل شيء فلا بد من الإجابة ثانية على السؤال، لا بد أن ينحرف عن القطيع، فيجيب الإجابة الصحيحة والدامية.
في الصباح، ذهب “كريم” إلى العمل وتوجه إلى الشؤون القانونية وطلب أن يحقق معه، وبعد أن قص القصة على المحقق أسرع المحقق بمشاورة رؤسائه ثم أخبره أن التحقيق سيؤجل للغد.
مرت الأيام والمحقق يُسَوِف ولا يستجيب والوسطاء يتناوبون على “كريم” بالتهديد والترغيب ولكنه منح الجميع آذانا صماء  فلم يعد يهمه العاقبة، سواء تضرر هو أو أولاده، لا يهم، لقد قرر أن يعبد الله وحده، والله هو الحق.

وفي أحد الأيام وأثناء ذهابه سيرا على الأقدام للعمل، فوجئ بسيارة مسرعة تتجه إليه وتوشك أن تدهسه، ففزع وارتمى على الأرض في محاولة يائسة لتجنبها، ولكنها ارتدت سريعا عنه وأكملت مسيرها، ونظر إليها مذهولا وهي تختفي من أمامه بينما هو ممدد على الأرض.

ورغم التجربة المفزعة إلا أنه أطمأن قليلا إلى احتمال سلامته وسلامة أولاده، فتهديدهم كان فعالا قبل أن ينتهي الحدث ويتقدم بطلب التحقيق معه، لأنهم إن أصابوه بمكروه بعد أن علم الجميع بقصته، فسوف تكون مخاطرة كبيرة قد تمثل ضغطا للوصول إليهم.
بعد ذلك توجه “كريم” لمركز الشرطة وقدم بلاغا في نفسه، يتهمها بالخيانة، وتكرر الوضع ولم يتمكن من كتابة المحضر وبذلك فشلت العملية الانتحارية الثانية.
فجرأة “كريم” أربكت الأوغاد الذين اغتصبوا ضميره.
ولكن “كريم” يعلم أن الارتباك لن يستمر طويلا وأنه بهذا العمل لن يمس السوء سواه لأنه الشخص الذي يجب أن يصمت.
ظل “كريم” بين الناس، يحكي لهم ما حدث وينشر قصة “اغتصاب ضميره” لكل الناس ومازال يحكي حتى الآن. ولكنه كلما عاد سالما لبيته، وجد حياته القديمة تعود إليه وضميره الحي يرضى عنه وأصبح ينظر لأسرته حوله وهي طاهرة ونقية وزال عنها ما كان يتوهمه.

وحتى الآن لا نعرف إلى متى سيستمر في حكاياته وكيف ستنتهي قصته؟ هل سيقتل؟ هل سيتهم بالجنون ويودع في مصحة عقلية؟ هل سيختفي وراء الشمس؟ هل سيبرز من الناس من ينصره ويقاوم معه؟ الله أعلم.
ولكن “كريم” فعل الواجب وخالف القطيع؛ رغم أنهم بالملايين.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s