صلاح حسن رشيد
الصورة: غلاف العدد الأول من مجلة الهلال
عاش “الهلالُ” منارةً لِثقافةٍ
مَلأتْ ربوعَ النِّيلِ فِكرًا جَوْهَرا
وتَساقَت الدُّنيا عَبيرَ رَبيعِها
أَلَقًا زَهَا؛ فكَسا الزَّمانَ الكَوْثَرا
“جُرْجِيْ” بَنَىْ في كلِّ شَهرٍ كَوْكَبًا
نَشَرَ الرَّحِيْقَ سَلاسِلًا تَغْزُو الوَرَىْ
تاقتْ إلى أعدادِها مُهَجُ الدُّنَىْ
أَمقالةً كانت وشِعرًا أَنْوَرا؟
تَتَراقَصُ الكَلِماتُ في أرْشِيْفِها
تَغْلُوْ وتَعْلُوْ كَنْزَ “تُوْتٍ” أَعْصُرَا
تَتَسابَقُ الأجْيالُ مِنْ أجْلِ الَّتِيْ
بَهَرَتْ عُقولًا في غَرامٍ أَنْدَرَا
قد رَصَّعَ التاريخُ رأسَ عَلائِها
بِثلاثِ عَشْراتٍ وقَرْنٍ أَبْهَرَا!
(شعر/ صلاح حسن رشيد)
“الهلال”، اسمٌ من ذهبٍ وألماسٍ وسِنديان، يسطع على مدى الزمان والمكان، يُقاوِم الزَّوالَ والغياب، ويعقِدُ أواصرَ النجاحِ والنبوغِ في كلِّ آن.. مجلةٌ سَمَتْ؛ فزَكَتْ، وتَرَبَّعَتْ على عرش المجلات الثقافية العربية طوال مائةٍ وثلاثين عامًا، كانت ومازالت هي النَّجمَ الأعلى والأغلى، وعليها يعتمد النُّخبةُ وأهلُ الثقافةِ والفكر؛ فهي صرحُ الوجودِ والهويّة والحضارة، وأملُ الحاضر، وشُعاعُ الغد المشرق الزاهي الباقي بقاءَ الإنسان على الأرض يعمرها بعقله وقلبه وروحه.
أجل، كنتُ ومازلتُ كُلَّما اسْتكتبتني جهةٌ ما، أو بدأتُ في بحثٍ علمي، ألجأ أوّلَ ما ألجأ إلى أرشيفِ “الهلال”؛ فهو العُمْدةُ والعُدَّةُ والعَتادُ الثقافي الذي فيه الكِفايةُ والجودةُ والإحاطة والمصداقية والموضوعية، وما يحتاج إليه الباحثُ والأكاديمي والمثقفُ والقاريءُ العادي.
ولهذا، احتلَّت “الهلال” أعظمَ مكانةٍ، وأرفعَ منزلةٍ لدى أهل القلم من جمهور المثقفين والعلماء والأدباء والباحثين؛ ففي مطلع كل شهرٍ، ينتظرها الجميع من المحيط إلى الخليج بترقبٍ وشغفٍ، لِما تبثُّه فيهم من مشاريع الارتقاء الفكري، والإصلاح المجتمعي، والتطوير المتواصل عَبْرَ أفكار التجديد والابتكار والإبداع، ومواكبة المستجدات الحياتية أوّلًا بأول.
سأل التلميذُ أحدَ حكماء عصره: وكيف يا سيدي أتثقَّفُ إذن بصورةٍ منهجيةٍ في هذا العصر الأسرعِ الأفظع؟ وإِلامَ أعتمدُ وأُطالِعُ في هذا الشأن؟ فقال له أستاذه بأبوَّةٍ حانيةٍ: يا بُنَيَّ مَنْ أراد الثقافةَ؛ فعليه بـ”الهلال”، ومَن ابتغى الفنَّ فليقرأ “الهلال”، ومَنْ توخَّىْ الفكرَ؛ فليُيَمِّمَ شَطْرَه نحوَ أعدادِ “الهلال”، ومَنْ قصدَ العِلمَ والتَّفلسُفَ؛ فليخْطُبَ وُدَّ “الهلال” ويمينَها وشِمالَها.
وأقولها صادقةً في رائعة النّهارِ الهِلالي الماتع: إنَّ مَن امتلكَ أرشيفَ مجلة “الهلال”، وتصفَّحها صباحَ مساء، وواصَلَ ليلَه بنهارِه؛ من أجلِ تثقيفِ نفسه.. أصبح مَحْسودًا مَغْبوطًا من العدوِّ والصديق؛ لأنه ظفر بالعذراءِ البَتُول، التي تفيءُ عليه بالخِصْبِ الفكري، والنُّورِ السَّرْمدي، والملكوتِ الأَسْنَى مِن المعارفِ والأديانِ والثقافاتِ والفلسفاتِ والآدابِ والفنون.
أجل، أجل، فقد حرص أغلب أدباء ومفكري وعلماء العصر الحديث على التأريخ لأنفسهم، وتخليد أعمالهم الأدبية والفكرية، من خلال مجلة “الهلال”، ولِمَ لا؟ وهي التي تنتشر انتشارًا في الشرق والغرب، وتقرأها الجاليات العربية في آسيا، وإفريقيا، وأمريكا الشمالية، وأمريكا الجنوبية، وأستراليا، وأوربا.
في هذا المقال، نطالع رأي كبار الأدباء والنقاد والمثقفين في مجلتهم العريقة “الهلال، وكيف كانت علاقتهم بها، ومتى بدأوا في اقتنائها؟ ثم الكتابة على صفحاتها الذهبية.
فكثيرًا ما أشار الأديب العالمي نجيب محفوظ رحمه الله (1911-2006) إلى أهمية الاطِّلاع على سِجِل مجلة “الهلال” الخالد، الذي حكى تاريخ مصر الثقافي في العصر الحديث، وتناول أمجادها بأقلام أبنائها وأبناء العالم العربي، حتى غدت سفير الأدب والفكر والمعرفة في كل مكان، كما أنه كان يعود إلى قراءتها باستمرار، والإفادة من أرشيفها النادر في كتاباته وآرائه.
كما حكى الدكتور محمد مهدى علّام أنَّ المستشرق الفرنسي الكبير لويس ماسينيون (1873-1962) كان يحرِصُ على اقتناء جميع أعداد مجلة “الهلال”، وأنه كان يشتري ما ضاع منه من أعدادها، وأنه كان دائمَ المُطالعةِ فيها، والإشادة بمحتواها العالي، وشكلها الرائع.
أمّا البروفيسور الكبير حسين مجيب المصري رحمه الله (1916-2004) عميد الدراسات الشرقية والأدب المقارن الإسلامي؛ فكان يُصاحِب الهلال في كل شهر، بل إنه اجتهد لكي يقتني أعدادها الأولى النفيسة؛ لِما فيها مِن غُرَر الأشعار والقصص، وأنصعِ الدراسات والبحوث والمقالات في شتّى التخصصات، وكثيرًا ما قال لي: إنَّ “الهلال” كنز الكنوز التي لا غِنَى لأيِّ باحثٍ عنها؛ فهي تُعدُّ أقدمَ المجلات الثقافية، وهي أروعها تبويبًا وتنسيقًا وعَرْضًا وفلسفةً في التناول والكتابة والإخراج.
* * *
وأمّا العلّامة الدكتور الطاهر أحمد مكي رحمه الله (1924-2017) عميد الدراسات الأندلسية والأدب المقارن؛ فكان يتخذ “الهلال” صاحبةً تُلهِمه الأفكار، وتُناجيه النظرَ والاختيار، ويكتب فيها أجمل وأعمق المقالات بريشة الفن والاقتدار.
بينما كان شأن رصيفه العلّامة الأديب وديع فلسطين متَّعه الله بالصحة والعافية (99 عامًا) أي قرن من الزمان يمشي ويتذكر الآن، كان اعتبار “الهلال” بيته الذي يجد فيه نفسه؛ فيخصها بروائع مقالاته، وأخصب ما تجود به قريحته وأحاسيسه، من الأدب المتين اللذيذ اللوذعي العزيز في هذا الأوان.
في حين، أن الدكتور العراقي الراحل يوسف عز الدين (1920-2012) كانت له مع “الهلال” حكاياتٌ وطقوسٌ وأحوالٌ؛ فكان- كما حكى لي من قبل رحمه الله- ينتظرها صغيرًا على رصيف القطار في مدينة بعقوبة بالعراق أوائل كل شهر، حتى استطاع بعد جهدٍ وعناءٍ أنْ يمتلك جميع أعدادها؛ فكان يستعين بها في دراساته وبحوثه الأدبية والنقدية، ويكتب فيها ما يعنُّ له من أفكار ورؤى.
* * *
أمّا الدكتور السعيد عبادة الناقد الأدبي الكبير (88 عامًا) فقال: إن “الهلال” هي حديث المثقفين في الصباح والمساء، في الجامعات والمنتديات، في المراكز العلمية والمقاهي الثقافية، ولكونها رصينة في طريقتها، ومتجدِّدة في محتواها وشكلها، فقد صارت منذ خروجها إلى الحياة المجلة الجامعة الأولى لقلوب وعقول المصريين والعرب.
بينما كانت “الهلال” أملًا ومشروعًا في مخيلة المؤرخ الكبير الدكتور حسن حبشي (1915-2005) رائد تاريخ العصور الوسطى بكلية الآداب جامعة عين شمس رحمه الله، إذ إنه ظلَّ يتابعها، ويتمنَّى أن يكتب فيها، حتى تحقَّق له ما أراد، لِما لها من ثقلٍ ثقافي ومعرفي ضخم على الصعيد العربي.
أمّا المحقِّق الأديب الأردني عصام الشنطي رحمه الله (1929-2012) مدير معهد المخطوطات العربية بالقاهرة الأسبق؛ فذكر لي قبل عشر سنوات أنَّ “الهلال” هي أرشيف مصر والعرب الثقافي، وأنها ديوان أحداثهم ومناسباتهم، ومصدر فخرهم، وموئل الفكر والأدب والفن والترجمة والمعرفة.
بينما أكَّد الناقد الأديب الدكتور عزّازي علي عزّازي رحمه الله (1957-2014) أن “الهلال” هي الذاكرة الجمعية للأمة المصرية، فقد سجَّلت الأحداث المهمة في المجال الثقافي، وراهنت على تحقيق النهضة من خلال الإصلاح والتبشير بالتحديث والتطوير العلمي المستقى من الغرب المنطلق في كافة مجالات الحياة، ولهذا، فلا عجب أن نجد الغربيين المتخصصين في الثقافة العربية يتجهون صوب أرشيف الهلال للنهل مما فيه من الدُّرَر والنفائس الخالدة.
وتؤكد الكاتبة الصحفية الكبيرة تهاني صلاح قائلة: إن “الهلال” مجلة عقدت أوثق العُرى الثقافية مع كل الأجيال منذ بدايتها حتى الآن، فقد تخصَّصت في الشأن الثقافي بمفهومه الواسع، وحملت آمال النهضة والتقدم، وراهنت على التجديد والتحديث، ولم تُغفِل التراث، وكشفت فيه من جوانب الإشعاع والبريق الأخّاذ.
من جانبها، ترى الدكتورة اللبنانية ريتا فرج الباحثة بمركز المسبار للدراسات والبحوث بدبي، والمتخصصة في علم الاجتماع السياسي أنَّ “الهلال” أضحت بعد احتجاب العديد من المنابر الثقافية العريقة، صوت الثقافة العربية الباقي الحالي، وأنها تحوي القديم الطريف من التراث، إلى جانب الجديد المفيد، فكانت بحق واحة الالتقاء التام بين الأصالة والمعاصرة، والمرفأ الآمن الذي يجد فيه الباحث المعرفة والعلم والثقافة معًا في عرضٍ أمين.
باحث وأديب مصري