حنان عبد القادر
صدر عن دار المبدأ للنشر والتوزيع والإنتاج الفني بالكويت، الطبعة الأولى من كتاب قدمه القاص والناقد السوري الأستاذ عبد الكريم المقداد بعنوان «تضاريس المتعة»، الكتاب من القطع المتوسط، جاء في مئة وثمان وسبعين صفحة، ويطالعك عنوانه الجاذب بفتنة الكشف، حيث تقع عين القارئ بادئ ذي بدء على كلمتين: تضاريس بما توحيه من رحلة تشبه سفرات الرحالة القدامى في سحر جغرافيا الأرض، ثم تليها كلمة المتعة فتفاجأ بوهج الإيحاء، وتتقافز الأسئلة: هل للمتعة تضاريس؟ وإن كان ثمة تضاريس فهل يقصد متعة الحس أم الإحساس؟، هل نحن بصدد مجموعة قصصية إذن، أم أمام عمل روائي؟، ربما تكون مجموعة شعرية تشبه دواوين القدامى – هذا لما ينم عنه حجم الكتاب – ثم تفاجأ بمفاجأة أخرى وهي تتمة العنوان: بحث في تقنيات القصة القصيرة»، إذن المتعة هنا ليست حسية ولا وجدانية، إنما هي تنبع من مثلث متساوي الأضلاع: الحس –الإحساس – الفكر، وكأن الكاتب يطبق في عنوانه ما ضمنه الكتاب في أحد فصوله: «العنوان بحر من الدلالات».
يحتوي الكتاب بين ضفتيه الفصول التالية:
ماهية القصة القصيرة / القصة القصيرة جدا / القصة والحكاية ومتاهة النقد / مشكلات السرد في القصة القصيرة / إدانة المؤلف بجرائم السارد / العنوان بحر من الدلالات / البدايات في القصة القصيرة / النقد الثقافي والقصة القصيرة (صورة المرأة).
عند بداية إبحارك تحاول اجتياز بوابة الإهداء إلى الخضم، فيسرقك شجن، وتأتلق العبرات فلا تكاد تمر حتى تشهق روحك أمام كلماته، لتجد نفسك سابحا في وهج قصة قصيرة جدا، بزخمها وشجنها لتتساءل مرة أخرى: كم من شبيه لصطيف لاقيناه في حياتنا، وكم من صطيف نراه كل يوم في نوافذ الإعلام؟، يهدي المقداد تضاريسه قائلا «لن أنسى ما حييت ذلك الطفل الجاثي أمام جثة أخيه الأصغر الذي أودى به القصف، حاثا إياه ليقوم من موته: صطيف.. صطيييييف.. قم يا صطيف !!»، فالزمان مفتوح للقارئ أن يحدده، والمكان يوارب بابه وللمتلقي أن يخيله، والشخوص ثلاثة: راو وطفلين أحدهما قتيل، أما الأحداث فتدور في لحظة قصف ما ينجو منها اثنان والثالث قد فارق بلا عودة، ويحتمل هذا المشهد من تأويلات المتلقي ومشاعره التي تنداح معه، وما يتسمعه بخياله من موسيقا الموت وصرخات المكلوم، وتذوق مرارة اللوعة وملح الدمع.
والمتتبع للكتاب يجد كل فصل فيه عبارة عن أوراق بحثية مستقلة بذاتها يذيلها الكاتب بالمراجع التي التجأ إليها، وكأنه ينبه القارئ إلى ضرورة النظر فيما استقى من معلومات، وأهمية الرجوع لتلك المراجع ليستزيد مما قرأ، وليعطيه فرصة للاستراحة والتقاط الأنفاس حتى يكمل رحلته في تلك التضاريس.
ويؤكد الكاتب اختلاف النقاد حول تعريف القصة القصيرة الذي توهم واضعوه إحاطتهم بروحها، مبينا أن لهذا الخلاف شقين: إيجابي تمثل في إعطاء كتابها الفرصة في محاولات التحديث والتجريب، وسلبي وهو أن نجد المطابع تخرج علينا كل يوم بكتابات تلتصق بهذا الفن وهو منها براء.
ويبين أن مفهوم القصة في تراثنا يختلف كليا عن المفهوم الغربي لها، فبينما يدور في مفهومنا حول الإخبار والحكايا ونقل الأنباء، يتناوله الغرب كعمل فني جمالي لا يلتفت للحكاية إلا بوصفها عنصرا من عناصر البنية الفنية للقصة، وهذا ما أوقع الكثيرين من كتابنا في التوهم بأن القصة القصيرة مجرد حكاية لا تلتزم بجمالية النص وفنيته، مما أدى لترهل السرد بشكل أودى بفنيات القص، كما أدى الارتكان لجزئية الإسناد التراثية إلى إشكالية الصراع بين الحقيقي والمتخيل، والخلط بين الكاتب والسارد، أو الكاتب وشخصيات عمله السردي حتى أنه يحاسب على ما تقترفه شخصياته من جرائم.
وفي مناقشته لماهية القصة القصيرة وعناصرها،والفرق بينها وبين الرواية، استعان بعدد لابأس به من كتابها مستعرضا بعض أعمالهم وكيف تعاملوا مع فنياتها، ومن هؤلاء الكتاب نذكر: يوسف إدريس، حنا مينا، زكريا ثامر، محمد كامل الخطيب، مروان المصري، ابراهيم أصلان، اعتدال عثمان، سحر سليمان، غادة السمان، ياسين رفاعية، محمد المخزنجي، ومن كتاب الكويت: وليد الرجيب، ليلى محمد صالح، حمد الحمد، فاطمة العلي، ليلى العثمان، ثريا البقصمي .
وفي مقارنته بين القصة والحكاية، يلقي القارئ في بحر الحيرة التي يجب أن تلقيه على شاطئ اليقين فيتساءل «هل يتساوى القص والحكي؟ أم أن أحدهما أكبر بحيث يتفرع منه الآخر؟
ثم ضرب أمثلة من التراث الحكائي القديم ليؤكد على ما ذهب إليه آنفا من أن القصة بمفهومها الحديث فن غربي، وأن ما تأصل في تراثنا يختلف تماما عن هذا المفهوم، مؤكدا أن النقاد العرب القدامى لم يأتوا على ذكر مصطلح القصة أساسا، إنما ميزوا الأدب شعرا ونثرا، ولم يكن لديهم شيئا اسمه القصة بل كانوا يستخدمون هذا اللفظ للدلالة على الحكاية وليس كمصطلح فني.
وعن مشكلات السرد في القصة القصيرة، عرض لعدة هنات يقع فيها الكاتب مثل الاستطراد في الوصف، والتقريرية، والأسلوب الخطابي، والتزيين المجاني الذي قد يطيل زمن الخطاب دون داع، مؤكدا أن القصة القصيرة لابد ألا تجانب التكثيف والتنظيم بعيدا عن نوافل القول.
ثم عرض لمشكلة إدانة الكاتب بجرائم السارد، مشيرا إلى التاب الذين شوهت صورهم بسبب أعمالهم الأدبية مثل نجيب محفوظ، وحيدر حيدر، وعالية شعيب، ونوال السعداوي، ووجدي الأهدل، وغيرهم.
وقد وضع الكاتب تبعة ذلك في عنق الحركة النقدية، والقصور الواضح في التعاطي مع تلك الأعمال، وأرجع ذلك إلى اللاوعي الجمعي الذي ارتكز على ثقافة إسلامية إسنادية تقصي الرواية الخيالية غير الحقيقية، وتثبت الواقعية المنزهة عن التلفيق، ثم تطرق إلى مفهوم موت المؤلف الذي لا يعني في نظره فناءه ومحوه بل هو مفهوم مجازي يدعو لخلق قارئ واع مبدع، منتج غير مستهلك.
وفي حديثه عن دلالات العنوان يقول: الواقع أن طبيعة العنوان تتبع طبيعة النص ؛ لأن العنوان ينبثق بالضرورة من النص»، ويفرق بين العنوان غير الأدبي والأدبي، فالأمر في الأدب يختلف لأننا أمام نص للمتعة له فضاءاته ودلالاته، وليس نصا نفعيا تعليميا، فطبيعة العنوان في النص الأدبي تتناغم مع طبيعة النص وتأتي اللغة بإيحاءاتها، وما يزيد العنوان إغراء كونه مفردا مقطوعا عن أي سياقات أخرى، فتكون أدبية العنوان مضاعفة الإيحاء والإغواء كونه العتبة الأولى التي يصادفها القارئ قبل ولوجه النص.
ثم يتعرض للشروع في كتابة القصة، وكيف تكون البدايات من الصعوبة بمكان لارتباطها بما سيترتب عليها من نتائج تشكل العمل القصصي، ويقع على البداية في النص الأدبي مهمة الاستحواز على القارئ وجذبه لمتابعة النص، وعجزها عن ذلك معناه وأد النص في مهده، لذا تعد البداية من أصعب مكونات العمل الإبداعي.
ويختم الكاتب هذه الرحلة بين ثنايا تضاريس متعته بالحديث عن صورة المرأة في القصة العربية، متخيرا مجموعات قصصية لكتاب أثبتوا مكانتهم في الساحة الأدبية وهم: زكريا ثامر، غادة السمان، حيدر حيدر، ليلى العثمان.
ويرى أنه من الصادم للقارئ أن يرى حضور المرأة في تلك النصوص لا يأتي إلا رديفا للشهوة والمتعة، وانها تتسم بالاتكالية والعطالة وضياع الإرادة، وهي مجرد تابع وآلة للتفريخ والطبخ وقضاء الوطر، ويتساءل في دهشة: هل الأدب نسخة عن الواقع ، أم أنه يريد استحضار تلك النماذج وتكثيفها لتعريتها أمام القارئ؟!
ثم يؤكد على نظرة الرجل الدونية للمرأة أيضا التي لا تتعدى حدود الجسد والشهوة، والعجيب كما يقول الكاتب، أن تبقى تلك الصورة على حالها رغم تعلم المرأة وعملها ودخولها لمجالات النضال الوطني.
ثم يرى أن التعامل مع النصوص بالتقاط عنصر وترك باقي العناصر وما تكونه من علاقة فيما بينها ينبني عليها الإبداع، إنما هو إجحاف للعمل الأدبي، حيث يضيع ذلك جماله، ويقرأه كنص مسطح لا كنص فني حمال أوجه، فكيف يمكن أن يتناول النقد العمل الأدبي بنظرية لا علاقة لها بالأدب؟
ومع مخالفتنا الرأي في بعض ماجاء به عبد الكريم المقداد في كتابه من وجهات نظر، إلا أن ذلك لا يقلل من مدى المتعة التي حملناها في طيات أفكارنا، ونحن نتجول معه في تضاريسه التي رسمها بين دفتي هذا الكتاب.