القصير القزعة

القصير القزعة

أيمن جبر 

اللوحة: الفنان الإنجليزي كونروي مادوكس

أتذكر ذلك المشهد الفكاهي من فيلم “مطاردة غرامية”؛ يشتكي المريض “الشديد القصر” إلى الطبيب النفسي -“عبد المنعم مدبولي”- أن الناس يُعيّرونه ويستهينون به، وهذا سبب له عقدة نفسية، ويريد وسيلة تزيد من طوله، يأمره الطبيب أن يكرر تلك الجملة، “أنا مش قصير قزعة أنا طويل وأهبل”، يكررها وراءه ثم يقول له الطبيب: “كويس أهو أنت طولت اتنين سنتي!”.

تكرار الجُمل هي حيلة نفسية تُستخدم لترسيخ الاعتقاد عن طريق زَرعه في العقل الباطن، وهذا الفعل يصبح شديد الضرر عند تكرار الجُمل السلبية، ويحدث العكس مع تكرار الجمل الإيجابية.

نحن نكرر بلا وعي جملا سلبية مشابهة، مثل أن نقول: 

“نحن شعب لا يصلح حاليا للديمقراطية، لأننا لم نتلقَ تلك الثقافة” كأن الديمقراطية فقط ثقافة وليست ممارسة، نُكرر القول بأننا “نحتاج عقودا كي نكون جديرين بالديمقراطية”، هذا بالإضافة إلى أن هناك فريق كبير من المسلمين يرفض الديمقراطية من منطلق ديني.

أنظر إلى كوكب الأرض فأشاهد معظم قارات العالم وغالب الجنس البشري يمارس الديمقراطية بمستوياتها المختلفة.

أسأل نفسي كيف هذا؟! أهؤلاء أغبياء! كيف لم ينتظروا مثلنا؟! إنهم يتناولون جرعة مضاعفة من عقار الديمقراطية قد تهلكهم، كيف لم يسألونا قبل أن يتهوروا! كنا سننصحهم أن ينتظروا معنا النضج الثقافي واكتمال الوعي!

يجب أن نعلم أن الديمقراطية إن كانت قيراطا من ثقافة فهي أربعة وعشرون قيراطا ممارسة، مثل المواد التي ذات شقين نظري وعملي؛ يستحيل الحصول على أحدهما دون الآخر.

في بداية ممارسة فن أو خبرة، يكون الإنسان أخرقا، قد يُتلف المادة الخام، قد يَجرح نفسه، قد وقد….

لكن مع الممارسة يُتقن ويَفهم ويُصبح غالب عمله غريزيا، كذلك الديمقراطية. تُمارس وتُصحح وتُراجع حتى تستوي على مسار صحيح.

هناك برلمانات في آسيا تنتشر لها مقاطع على اليوتيوب والنواب يتبادلون السباب و اللكمات، ونحن نضحك منهم وعليهم، هؤلاء اتخذوا القرار الشجاع والحاسم بممارسة الديمقراطية وساروا على الدرب، وسوف يصلون للنضج بينما نحن نضحك!.

الدليل على صوابهم؛ أن هذا المشهد المضحك هو نفس المشهد لبرلمانات الغرب في بداياتها.

ثم صاروا إلى المنتج الأخير الراقي والمحترف الذي نراه الآن.

يقول المفكر المصري الشهير “فؤاد زكريا”: في كل الدنيا، الشعوب تطالب بالديمقراطية والحكومات تقاوم مطالب الشعوب، بينما عندنا في الوطن العربي حالة فريدة جدا، فلأول مرة يتفق الشعب والحكام على رفض واحتقار الديمقراطية.

وبنفس الوسيلة نبرمج أنفسنا بأقوال نكررها مثل:

نحن شعب متخلف بطبيعته.

نحن شعب لا ينفعنا إلا السوط.

نحن شعب في جِيناته الفساد.

نحن شعب مُحتل منذ آلاف السنين 

نحن ونحن….

عندما تقول للولد بغرض التربية:

لا تبك.. لا تصرخ.. لا تعض شفتيك، لا يفهم المخ البشري ولا يحتفظ إلا بالأمر المنهي عنه بعد إزالة أداة النهي، فيكون هذا النهي وكأنه أمر بالفعل. فيفهم أنه يبكي ويصرخ ويعض شفتيه.

جرب أن تقول للناس لا تفكروا في “الفيل”، تلقائيا سوف يقفز إلى الخيال صورة “الفيل” ولا يسهل طرد الصورة المقتحمة.

علينا أن نكف عن ترديد الكلمات التي تجلد الذات وتبرمج وعينا الباطن لأنها تحفر فينا كل ما هو سلبي.

لنكرر القول:

نحن أولى الشعوب بالديمقراطية.

نحن شعب في جيناته ميراث حضاري غزير.

نحن شعب العلماء والمفكرين والرواد في كل المجالات.

نحن شعب حر وحي وأبي.

يجب أن نعي ما يجب أن نقول وما لا يجب أن نقول، فالبرمجة تحدث تلقائيا من الأفكار التي نكررها بألسنتنا.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s