بنك الوقت

بنك الوقت

جولييت المصري

اللوحة: الفنان الإسباني سلفادور دالي

العرب أصحاب الأقوال وأرباب الحكمة، الحكمة التي تسمع، وتتناقلها الألسن ولكن – للأسف – دون العمل بها أو تفعيلها بشكل عملي في الحياة. كثيرون منا يعرف تلك الحكمة، بل يحفظها عن ظهر قلب: «الوقت من ذهب» – «الوقت كالسيف إن لم تقطعه، قطعك» هو من ذهب، وأهملناه حتى مر وذهب دونما فائدة، وهو دائما يقطعنا ولا نقطعه، يمر عمرنا هباء لنكتشف أن العديد من ساعاته وأيامه مرت هباء، ولم يعد علينا منه شيء.

هل سمعتم يوما بأن هناك بنكا يدخر لكم الوقت لحين حاجتكم إليه؟ وإن كان موجودا بالفعل، هل تفكرون في ادخار بعض وقتكم فيه؟ تخيلوا أن واحدة من البلاد المتقدمة في العالم فكرت في إنشاء هذا البنك لمواطنيها، وأصبح لديها من العملاء الكثيرون، فما قصة بنك الوقت هذا؟ وهل يصلح مثله في بلادنا؟

بنوك للوقت في سويسرا

لقد بدأ تطبيق تلك الفكرة في سويسرا، تبنتها أحد أبرز مؤسسات الرعاية الاجتماعية، وهي «مؤسسة الرعاية الوقتية في مدينة سان غالن» وتبعتها بعد ذلك ألمانيا واليابان. ويضم هذا البنك أرصدة وحسابات من نوع خاص، أصحابها متطوعون من المتقاعدين، وقوامها ليست الأموال، وإنما الأوقات التي يقضونها في خدمة غيرهم من كبار السن، على أن تُصرف لهم ويستفيدون منها فيما بعد على شكل ردّ الجميل – أي تبادل الخدمات – حينما يحتاجون إلى ذلك.

وتنقسم الخدمات إلى نوعين: آنية وتوفيرية، الخدمات الآنية هي تلك التي يتم تبادلها بفارق زمني قد يكون أياما أو أسابيع أو حتى شهورا. أما التوفيرية فتعتمد على مبادلة الوقت بفارق زمني قد يصل لسنوات. والنوع الأخير عادة ما يلجأ إليه المتقاعدون حديثاً، حيث يقدمون وقتهم للأكبر سناً، وبذلك يكونوا على اطمئنان أن شخصاً ما سيكون بجانبهم ويمد لهم يد العون في خريف العمر.

ويتيح هذا المشروع الفرصة للمتقاعدين، ممن هم في صحة جيدة ويرغبون في منح جزء من وقتهم لغيرهم ممن تقدمت بهم السن وبحاجة إلى رعاية خاصة، بحيث تُدّخر لهم ساعات الخدمة في حساب شخصي افتراضي، يمكنهم الاستفادة منها في وقت يكونون فيه هم أنفسهم بحاجة إلى هذه الرعاية، عند ذلك، يسددون من أرصدتهم الوقتية ما يتوجب عليهم من تكاليف.

وجاءت فكرة المشروع ضمن مشروعات التطورات الاجتماعية حيث لوحظ ما أدت إليه الحياة المدنية الحديثة، من تراجع في روح التضامن لدى الناس في سويسرا، بسبب الهياكل الأسرية الحديثة وكثرة الحركة والتنقل، فضلا عن ضعف رابطة القرابة عمّا كانت عليه في الماضي، الأمر الذي استدعى ضرورة الاهتمام بتشجيع التعاون والمساعدة خارج إطار الأسرة.

ضمن هذا السياق: أنشئت منذ عام 2008 محفظة الوقت، التي يمكن للمواطنين من خلالها مساعدة بعضهم بعضا، وهي مبادرة جاءت من قبل الصليب الأحمر، وما زالت قائمة وتعمل بشكل جيد.

والمشروع لا يقصد به منافسة الهيئات والمؤسسات التي تتبنى خدمة المسنين من ذوي الاحتياجات، وإنما هو مكمّل لها، فأكثر ما يحتاج إليه المُسِن هو مساعدته في توفير احتياجاته اليومية، كالمشتريات والمعاملات الإدارية والنظافة، والهدف الرئيسي يتمثل في إتاحة الفرصة لهؤلاء الناس لمواصلة العيش في منازلهم لأطول فترة ممكنة، حيث تظل إقامتهم في دار رعاية المسنين أقل مرضاة لهم وأكثر تكلفة على المجتمع.

ومن خلال هذا المشروع أصبح بإمكان مجموعة كبيرة من الناس ترشيد أوقاتهم وتحويلها إلى عملة تودع بالبنك ويتم صرفها أو استبدالها وقتما يرغبون، وهناك إدراك متزايد من قبل المتقاعدين بضرورة ألا تبقى الاستفادة من أوقاتهم حكرا عليهم فقط، بل لابد من إعطاء معنى لحياتهم عبر إفادة الآخرين، وهؤلاء الأشخاص لا يعانون من مشاكل مادية، بل إن أوضاعهم المالية جيدة، وإنما ينقصهم الشعور بالأهمية والاستمرار في العطاء، فهم فضلا عن حبهم للإيثار، إلا أنهم يبحثون عن السعادة من خلال مدّ يد العون للآخرين، إنه نهج يحارب الشعور بالوحدة والانعزال، والمراد من ممارسته أن يتمكن المتطوعون من إحياء المدن بعادات التكافل والتآلف التي كانت موجودة في القرى منذ زمن ليس بالبعيد.

وتشترط وزارة الضمان على المشترك أن يكون لائقا صحيا وقادرا على العطاء والتواصل مع الاخرين، وراغبا في تقديم الخدمات بنفس راضية وإخلاص.

وقد وجد هذا المشروع تأييدا ودعما كبيرا من الشعب السويسري نظرا لما يقدمه من فوائد يعود مردودها على الفرد والمجتمع.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s