وديع فلسطين.. قِدِّيسٌ مفاتيحه عجيبة!

وديع فلسطين.. قِدِّيسٌ مفاتيحه عجيبة!

صلاح حسن رشيد

اللوحة: الفنان العراقي ضياء العزاوي

(أينما كان الوديع؛ فثمَّة أدبٌ، وفنٌّ، وكتابةٌ، ولغةٌ، وصحافةٌ، وتاريخٌ؛ وحكاياتٌ شائقة عن أعلام القرن العشرين، لا يعرفها مؤرخو الأدب الحديث، ولا نُقّاده؛ فهو شيخ الأدباء، وسيد النقاد، بلا مُنازَع)!

البداية  والنبوءة

لعل الحكمة العربية المستقاة من القصة التالية؛ تكشف لنا عن سر هذه النفس؛ التي نحن بصدد كشف عوالمها، وأحوالها، وأجوائها، ومقاماتها، وخوالجها، ودقائقها، في الفرح، والترح: “سأل أعرابيٌّ أحد الحكماء: متى أصمتُ؟! فأجاب الحكيمُ: إذا اشتهيتَ الكلام! فردَّ الأعرابيُّ متسائلاً: ومتى أتكلم؟! فأجابه الحكيم: عندما تشتهي الصمت”!

السهل الممتنع

فإذا أردتم؛ أن تروا رجلًا، حباه الله من المواهب، والفنون، والأساليب؛ فأبدع بمزاج، وسكت بمزاج، ونطق بمزاج، واستقال بمزاج، وترك الكتابة بمزاج؛ فأنتج قليلًا قليلًا؛ وابتدع كثيرًا كثيرًا.. ما عجزتْ عن حمله كواهل النوابغ، وربابنة الأدب التقليدي الرتيب، وجهابذة الحداثة العويصة؛ فانظروا إلى رحلة الأديب الكبير الراحل مؤخرًا العلّامة وديع فلسطين(1923م – 2022)، شيخ الأدباء، وقِدِّيس الصحافة، وكاهن البلاغة الرشيقة الواضحة، وحَبْر اللغة الجزلة، التي تصيب المِحَزّ؛ بلا لفٍّ، ولا التواءٍ، ولا معاظلةٍ، ولا تقعرٍ!

عاش الراحل الكريم وديع فلسطين (99 عامًا)، وهو على هامش الحياة، يرقب كل شئ، ويعرف كل شئ، ويسكت عن كل شئ!

أجل؛ فلم يُزاحِمْ، ولم يُداهِنْ، ولم يُنافقْ، ولم يسعَ لأحدٍ، ولم يَبِعْ قلمه الشريف البليغ، الذي عرف قدره؛ فلم يرهنه لأحد، ولم يتسوَّل به يومًا ما!

أقول، وما أعرفه عما لقيه هذا الرجل الأُمَّة من ظلمٍ وإجحافٍ، لا تحتمله صحيفة ولا مجلة؛ فقد احتجز بداخله الغُصّات؛ واسترجع مسلسل الكُرُبات؛ فسلَّم بالقضاء والقدر، وانسحب بكبرياء، وعكف في بيته موجوعًا؛ وهو يردد: “هذه أرزاقٌ؛ ورزقي لم يأتِ بعد”! وردَّد قول أمير الشعراء أحمد شوقي:

خَلَقَ الحظَّ جُماناً وحَصَىْ

خالِقُ الإنسانِ مِنْ مـاءٍ وطينْ!

فَللأمرِ ما، وسِرٌّ غامضٌ

تَسْعدَ النطفةُ، أو يشقَىْ الجنينْ!

فوليدٌ؛ تسعدَ الدنيـا بـهِ 

ووليدٌ فـي زوايـا المُهْمَلينْ!

ثُمَّ أردف ذلك؛ بقول أحد الشعراء:                         

والرِّزْقُ يُخْطِئُ بابَ عاقلِ قومهِ

ويُبيتُ بَوّابًا لبابِ الأحمقِ!

وأعترف أنني قبل أن ألِجَ عالَم وديع فلسطين الفسيح الساحر، توضَّأتُ، ودعوتُ، وصلَّيتُ، وحوقلتُ، وسبَّحتُ، وقدَّمتُ طعامًا لعيال الله في الأرض؛ أملًا في أن يُحالفني التوفيق، وأنْ أستطيع أن أُقدِّم صورةً قلميةً نفسيةً حقيقيةً أدبيةً بليغةً لهذا الجبل الشاهق الصبور، الذي رأى التِّلال من حوله، تعتاش على موائد الكتابة، بالحِبْر المسروق، والادِّعاء المحروق على بخور السُّحْت والبهتان! فاكتفى بالمشاهدة، والحسرة تقتله؛ أنْ علا الباطلُ واستطال، وانزوى الحقُّ واستقال. 

فلسفة الحب والمودة

فمَنْ أراد إذًا، معرفة وديع فلسطين عن قربٍ؛ فعليه أن يعرف أولًا مفاتيح شخصية هذا الوديع، الذي ما كَرِه أحدًا على ظهر الأرض. وما أحبَّ إلا الإنسانية في عليائها؛ فلم يكتب إلا بحب، ولم يرسم صور الأعلام في عصره، الذين التقاهم إلا بحب، ولم ينتقد إلا بحب. فالحب فلسفة وديع فلسطين، والمودة عالمه الفسيح الرحيب العجيب، الذي شاده بعنايةٍ خاصةٍ، وأسَّسه على تقوى من الله ورضوان.

مُسالِمٌ مع خصومه

ومن مفاتيح الوديع الخفية، إيثاره السلامة، والابتعاد عن المعارك المفتعلة، والمساجلات العقيمة؛ فهو رجلٌ مُسالِمٌ حتى مع أعدائه وخصومه! فحينما هاجمه أنور المعداوي، اكتفى الوديع بالصمت الجميل. وحينما تعدَّى عليه حبيب زحلاوي بضراوةٍ وغباءٍ، آثر الصوم عن الكلام الحرام! وديدنه قول ابن المقفَّع الحكيم البليغ: “إنْ كان ذلك؛ فنحن لا نعلم .. ومِن العلم؛ أنْ تعلم أنك لا تعلم؛ بما لا تعلم”. وقول الأصمعي ردًّا على خلف الأحمر: “إنْ شئتَ؛ فاشتمني؛ وإنْ شئتَ فاقذفني؛ غيرَ أنه لابد لي؛ مِنْ أنْ أسكت؛ فليس كلُّ ما في الفؤاد يُقال”!

الوديع يعرف قيمة نفسه

مشهدٌ آخر، ومفتاح جديد من مفاتيح وديع التي يستحيل على مَنْ لا يمتلكها أن يكتب عنه كما كتب هو عن الكبار؛ فوديع أمسك بمفاتيحهم؛ فانثالت عليه قرائحهم فيضًا ونورًا وحبورًا، وهاهي ذي الحكاية؛ تقول لكل صاحب لبٍّ، وموهبةٍ: ففي إحدى الندوات العربية، قبل خمسة عشر عامًا، تمت دعوته لتكريمه؛ بمناسبة الاحتفاء بشعراء المهجر؛ فظن الوديع؛ أنه سيُلقِي كلمة عن هؤلاء المهجريين، الذين عرفهم عن قرب، وكتب عنهم، وراسلهم وراسلوه؛ فذهب سعيدًا؛ وفي جعبته أطنان من حكاياته اللوذعية عنهم؛ ففوجيء؛ بأن المتحدِّثين عن أدباء المهجر؛ لم يكتبوا حرفًا عنهم؛ ومعظمهم وُلِدَ بعد رحيلهم؛ وأنه ممنوعٌ من إلقاء أية كلمةٍ عنهم، أما هؤلاء الخطباء الغرباء غير البلغاء؛ فكانت كلماتهم ضعيفة، وبحوثهم عرجاء؛ فاحتمل الإهانة شامخًا، وعرف أنَّ عليه أنْ لا ينتظر ثناءً من أحدٍ؛ فيكفي فقط أنْ تعرف أنتَ قيمة نفسك، وأنه لو اجتمع الإنس والجِن على أنْ يُشَكِّكوك في إبداعك، وإنتاجك؛ فلا تلتفتْ إليهم؛ بل؛ أدِرْ ظهرك لهم، وحلِّقْ وحدك في السماء منتشيًا راضيًا!

تغيُّر الأحوال

وبين آونةٍ وأخرى كنت أراه وأسمعه يقول بحرقةٍ وألمٍ: “حملتُ على كاهلي سِيَر أعلام القرن العشرين، وحفظت روايات ونوادر شعراء المهجر، وألزمتُ نفسي الإجادة في كل شئ، ولم أجد من قومي إلا العقوق والصدود! فحالي هو قول المعري:

الحمدُ للهِ قد أصبحتُ في دعةٍ         

أرضَى القليـلَ، ولا أهتمُّ بالقـوتِ

لكـنْ؛ أُقَضِّـي مُدَّتـي بتقنُّـعٍ                

يُغْنـِي، وأفـرحُ باليسيـرِ الأروحِ

لا؛ بل قال مُرَدِّدًا بيت صديقه الشاعر محمود أبو الوفا:

أُريدُ وما عسى تُجْدِي أريدُ        

على مَنْ ليس يملكُ ما يُريدُ!

لا؛ بل استرجع قول صديقه شاعر القطرين خليل مطران، وهو يندب حظه وأيامه:

أمّا الجزاءُ؛ فإني استوفيتُ        

فيهِ فـوقَ وزني

في الحاضرِ؛ استسلفتُ ما       

سيقولُه التالونَ عني!

وهكذا، عاش وديع فلسطين رحمه الله موجوعًا من العقوق وعدم التكريم والإشاحة والصدود، وهو الذي عزف للعرب آخر سيمفونيةٍ كلاسيكية رائعة، على غرار قمم الشوامخ من أمثال: العقاد، وطه حسين، والزيات، ومي زيادة، وتوفيق الحكيم، ونزار قباني، والطاهر مكي، ونجيب البهبيتي، وعبد الخالق عضيمة، وتمام حسان، وبنت الشاطيء، وسهير القلماوي، ووداد سكاكينى.


وديع فلسطين حبشي (1923 – 4 نوفمبر 2022) صحفي وكاتب مصري من مواليد مدينة أخميم في سوهاج عام 1923. تخرج من الجامعة الأميركية بالقاهرة بدرجة البكالوريوس في الصحافة عام 1942. عمل في جريدة الأهرام، كما كتب في العديد من الصحف مثل «منبر الشرق» و«الشعلة» و«الإنذار» و«الراوي الجديد» وغيرها. عمل أستاذاً للصحافة في الجامعة الأمريكية ومراسلاً ووكيلاً لمجلة «الأديب» ومراسلاً لمجلة «الدبور» اللبنانية ومراسلاً لجريدة «الصباح» التونسية، وممثلاً لمعهد «الشئون العربية الأمريكية» الذي أنشأه في نيويورك د. خليل طوطح. له عدد من المؤلفات منها: وديع فلسطين يتحدث عن أعلام عصره (في جزئين)، قضايا الفكر في الأدب المعاصر، مختارات من الشعر العربي المعاصر. كما ترجم عددا من الكتب أهمها: مسرحية الأب لأوجست ستريندبرج، استقاء الأنباء فن، العلاقات العامة فن، أوليفر وندل هولمز، قضية فلسطين في ضوء الحق والعدل لهنري قطان.

صلاح حسن رشيد باحث وأديب مصري

رأي واحد على “وديع فلسطين.. قِدِّيسٌ مفاتيحه عجيبة!

  1. رحم الله وديع فلسطين؛ فقد عاش وحيدًا، وبنى لنفسه أسلوبه الفريد والمبتكر في الكتابة والصياغة والتأريخ لعظماء القرن العشرين؛ فكان جامعة تمشي على الأرض.

    إعجاب

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s