حنان عبد القادر 

اللوحة: الفنان الإسباني فرانشيسكو جويا

هل يستطيع الفن – أي فن – أن يواجه الحرب أو يسهم في تجريمها ويبني لبنة في سد الوقوف بوجهها؟

وإلى أي مدى يمكن للفن التشكيلي أن يدلو بدلوه في هذا الجانب؟

يستطيع الفن التشكيلي بتعبيريته وجمالياته أن يفتح آفاق أرواحنا ويوسع مداركنا، ويلهب مشاعرنا عندما يقدم لنا التجارب البشرية من خلال اللون والضوء والحركة، ويحملنا بأفكاره إلى فهم الحياة بأفراحها وأتراحها، ورؤية مفاهيمها بالتلميح لا بالتصريح، وهنا تكمن قدرة الفنان وموهبته وإبداعه.

والمتأمل للوحات التي تعرضت لرسم الحروب، نجدها تنقل لنا ما تحمله الوجوه من معاناة وعذاب، وقد تباينت مواقف الفنانين ومقاصدهم في هذا الرصد، لكني أود أن أتوقف معك – عزيزي القارئ – عند الهدف الذي أوعزت به إليك بداية هذا المقال، ألا وهو: هل استطاع الفن التشكيلي أن يعبر عن مناهضته للحروب دون الانسياق خلف الأيديولوجية السياسية السائدة؟

إن فكرة مناهضة الحروب لم تكن وليدة اليوم، بل سبقنا لها كثير من المفكرين والفنانين عبر العصور، فبعدما كانت الحروب حاضرة وبقوة، خاصة في لوحات التشكيليين عبر مختلف العصور، بهدف تمجيد المنتصرين، ودحر العدو، وتوثيق بطولات قادة الجيوش المعتدية، بدأ يظهر الاتجاه الفني المضاد لذلك. ويعد الفنان الإسباني فرانشيسكو جويا أعظم المناهضين للحروب في عصره، فقد أدان – من خلال ما قدم من لوحات – الحرب وويلاتها، فكانت شاهدا على تهدم المجتمعات ومعاناة الناس فيها، فقد سجل رؤاه الخاصة وانفعالاته بريشته مثلما يفعل الشعراء على حد قول إرنست جومبرتش في كتابه قصة الفن، وأصبح جويا كما يقول عنه الناقد روبرت هيوز: “أعظم منفيستو ضد الحرب في تاريخ الفن”.

وبقي جويا متفردا بذلك حتى منتصف القرن التاسع عشر، بعدها بدأ الفنانون المعارضون للرؤية التمجيدية للحروب في التعبير عن غضبهم، ومنهم الفنان جوزيف باتون الذي رسم في إحدى لوحاته جنديا أسكتلنديا عائدا لمنزله وقد فقد يده أثناء الحرب، تحتضنه زوجته، وتبكي والدته على كتفه، مصورا بذلك معاناة الجنود البسطاء وما يكابده الناس من ويلات في الحروب.

سر تحول جويا

كان جويا – كغيره من الفنانين – يمتهن فن البلاط الملكي، ورسم البورتريه، وتوثيق المظاهر الاعتيادية في الحياة، لكنه رأى الاستبداد الديني متفشيا، مما ساعد على انتشار الجهل والنفاق واندلاع الحروب، فغشيت عصره الظلمة، بينما كانت فرنسا تلوح بالتنوير، وبصفته واحدا ممن اعتنقوا الأفكار التحررية، كان من المرحبين بالتدخل الفرنسي في بلاده، لكن تأتي الرياح بما لا تشتهيه السفن، فقد ارتكب الفرنسيون المتنورون الفظائع التي لا توصف، فرزح الإسبان تحت وطأة المهانة والظلم والتعذيب، عمت الفوضى، واندلعت الحروب الدموية لعدة سنوات، وشعر جويا بخيبة الأمل، فانبرى يسجل بريشته – بصفته شاهد على هذا العصر – ما يدين الممارسات التي تنتهك القيم والأخلاقيات الإنسانية عبر سلسلة لوحاته “كوارث الحروب” التي تربو على الثمانين لوحة، مستخدما فيها تقنية الحفر بالحمض “ Aquatint“، التي أعطت اللوحات بعدا عاطفيا بتدرج الظل والضوء وغياب الألوان فيها، واتفق مؤرخو الفن على أن لوحات كوارث الحرب لجويا تنقسم لثلاث مجموعات موضوعية: الحرب، والمجاعة، والرموز السياسية والثقافية، ويعكس هذا الترتيب التسلسل الذي رسمت به تلك اللوحات.

وقد حرص جويا على عرض الحرب ككارثة بشرية تصيب بشرورها الجميع، ولا هدف لها سوى الصراع من أجل البقاء، والقتل بوحشية لنيل السلطة، وهو يعمل عليها كأنه الصحافي البارع الذي يرسل تقاريره عن بشاعة الموت وممارسة الإعدام بلا ذنب، وانتشار الجثث المشوهة في كل مكان، وما يصاحبها من هلع ومجاعات. 

وتعد لوحتاه: الثاني من مايو، والثالث من مايو من أشهر تلك اللوحات، التي خلد فيهما ذكرى المقاومة الشعبية ضد الغزاة الفرنسيين. فلوحة «الثاني من مايو» تمثل ثورة سكان مدريد ضد نابليون بونابرت وجيشه، حيث يظهر فيها الفرنسيون يركبون الأحصنة بينما الإسبان راجلون ويحاولون إسقاط المرتزقة عن أحصنتهم وقتلهم بالخناجر. بينما لوحة الثالث من مايو والمعروفة باسم «الإعدام رميا بالرصاص» فهي تصور إعدام الثوار الإسبان ضد الجيش الفرنسي في ميدان مونكلوا وهو أحد الميادين التي شهدت قسوة الاحتلال.

وتبقى عظمة أعمال جويا تحركها بصيرته كمبدع له رؤاه وتجاربه الإنسانية الخاصة التي جاءت معبرة عن مجمل التجارب الإنسانية بأبعادها النفسية والمأساوية، فلم تكن لوحاته تخص عصره فقط، بل شاهدة على مأساة الإنسان في كل العصور؛ فجاءت متحررة من الزمكانية، وملامسة للإنسانية، وملهمة فنية لكل من جاء بعده.

• تشكيل