د. محمد جابر لطفي
اللوحة: الفنانة الإسبانية أنابيل أندروز
خطوات واهنة لإمرأة جميلة تدق درجات سلم قديم تتوقف للحظات ثم تعاود الصعود باب صغير تتصاعد منه أصوات مختلفة تلتقط المرأة أنفاسها وتجتاز الباب تتفرس في وجوه الموظفين المكدسين داخل الغرفة حتى تجد ضالتها في وجه رجل يقترب بسرعة من الستين.
- صباح الخير ياأستاذ
- صباح الخير يا أبله
تحاول المرأة أن تكمل الحديث إلا أن أنفاسها اللاهثة تخنق كلماتها ليبادرها الرجل قائلا:
- خدى نفسك يا أبله معلش السلم ضيق وطويل وإحنا في الدور الخامس حتى مافيش كرسى تقعدى عليه أنا ح أجيب لك كوباية ميه
- لا مش لازم أنا أخدت نفسى خلاص ممكن سؤال
- إتفضلى
- هو الأستاذ علاء خليل موجود
- علاء مين ؟ مين ده يا أبله؟
- جوزى يا أستاذ
- أنا مالى ومال جوزك يا ست
- مش قصدى أنا بسألك عليه لإنه مارجعش البيت من يومين قلت أسال عليه في شغله
- شغل ؟أي شغل ؟هنا قصدك
- طبعا هو بيشتغل عندكم من 8 سنين
- لا 8 سنين ولا 8 دقايق حتى أنا عمرى ما سمعت بالإسم ده مع إنى أقدم واحد في الشركة كلها يا بنتى ويلتفت ليسأل باقى الموظفين
- حد يعرف أستاذ علاء خليل جوز الست دى؟
لا يجاوبه أحد منهم ويهزون رؤسهم بالنفى
تتسع حدقتى المرأة غير مصدقه
- يالهوى هو قال لى إنه بيشتغل هنا وادى البطاقة بتاعته مكتوب فيها مكان شغله أتفضل شوفها
- هاتى كده يابنتى صحيح فعلا أعتقد أن فيه حاجه مش مفهومة لكن يا بنتى جوزك عمره ما إشتغل معانا هنا أبدا
تنفجر المرأة بالبكاء لينظر إليها كل الموجودين يقوم أحدهم من مكانه ويحضر لها كرسيه لتجلس بينما ينادى آخر على أحد العمال ليحضر لها كوب ماء
- أنا تعبت من اللف سألت عليه في كل حته عند أصحابه عند الناس اللى كنا بنزورهم ويزورونا وفى بيت أهله مالقتوش ولا حد عارف راح فين
- حتى أهله؟
- طلع اللى ساكنين في بيتهم لا يعرفوه ولا يعرفوا أهله حتى
- إنتى كنت بتزوريهم؟
- طبعا 3 سنين وأنا باروح عندهم معاه صحيح مرات قليلة لكن أنا عارفه البيت كويس وفاكره كل حاجه
- غريبة أوى يا بنتى إتصلتى بالشرطه
- ايوه وعملت محضر بغيابه
- ربنا يعينك يا بنتى سؤال بس ولامؤاخذه إنت متأكده من كلامك ده أصل مش معقول كل الناس مايعرفوش راح فين ولا حتى أهله لقياهم
- قصدك إيه يا أستاذ إنى مجنونة مثلا
- سامحينى يا بنتى مش قصدى بس كلامك غريب أوى
تنهض المرأة فجأة لتشكر كل من ساعدها وتنظر فى وجوه كل من بالغرفة علهم يذكروا لها مايشفى غليلها لكن الصمت ساد المكان
صرخات حادة لطفلة لاتتجاوز السنتين يعقبها تساقط أوعية بالمطبخ في تتابع سريع ويظلم البيت كله تهرع المرأة إلى الطفلة وتحتضنها
- بس بس يا منى إسكتى حرام عليكى كفايه صويت
لكن الطفلة تعاود الصراخ تنهض المرأة وتهدهد ابنتها وتضئ شمعة صغيرة لكن الطفلة لا تتوقف عن الصراخ
تنهار المرأة في نوبة من البكاء
- يابنتى إرحمينى بقى أنا مش مستحمله أبوكى طفش ومافيش له أثر وإنتى كل ماتصرخى حاجه تحصل النور يطفى الإزاز يتكسر أنا تعبت تعبت لفيت بيكى على الدكاتره مافيش فايده مابقاش غير إنى أسمع كلام جارتى أم أحلام وأروح للشيخ هريدى يقرأ عليكى
ترتاح المرأة لتلك الفكرة وتنظر إلى إبنتها في حيرة
تمسك امرأة بيد طفلتها تساعدها في صعود سلم ضيق لبيت قديم حتى يصلا إلى باب معلق عليه آيات من القرآن الكريم تطرق المرأة الباب ينفتح بعد ثوان ويظهر رجل خمسينى له لحيه بيضاءصغيرة..
- السلام عليك يا شيخ
- وعليكم السلام يا بنتى إتفضلى أي خدمة
- عايزاك تقرأ لى على البت دى
- مالها الحلوة
- بتعيط كتير وبتحصل حاجات غريبة لما بتصرخ
- آه فهمت هاتى البنت
يلتفت إلى الطفلة يحاول أن يحملها
-إسمك إيه يا أموره
تبدا الطفلة في الصراخ بحدة ينظر الشيخ إلى عينيها وينتفض ويتمتم
- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ويبتعد فجأة إلى أقصى الغرفة قائلا
- خدى بنتك وربنا معاكى يا بنتى
- فيه إيه يا شيخ البنت فيها حاجه
- لا يا بنتى بس دى مش إنسية زينا
تدق المرأة على صدرها وتنظر إلى طفلتها في فزع
-يالهوى منى بنتى مش بنى آدم أمال إيه عفريته؟
-أيوه يا بنتى دى بنت جنى من الأرض الرابعة
-جنى! من الأرض الإيه ! الرابعة! ياشيخ قول كلا م يتفهم والنبى تقول لى على الحقيقة
– يا بنتى زى ما بقولك أنا عارف أنا قلت إيه روحى دورى على أبوها علشان ياخدها
-أدور على أبوها وعرفت منين إنه طفش وياخدها فين
– الأرض الرابعة يا بنتى وزى ماقلت لك لازم البنت ترجع لأهلها علشان تهدى
-أ نا أمها وأنا أهلها يا شيخ حرام عليك
-الكلام إنتهى ياست
– طيب أبوها فين تعرف مكانه أروح له
– علمى بيقف عند كده يا بنتى الله أعلم بيه وبمكانه الله يصبرك ويقويكى
تقف المرأة ممسكة بيد طفلتها وتخرج حائرة لا تدرى إلى أين تذهب إلا إن الشيخ يلاحقها بنداء
- يا أم منى فيه واحد يقدر يساعدك
- الحقنى بيه يا سيدنا الشيخ ألاقيه فين؟
- إسألى في ترب الغفير عن أبو سليم الأعمى
- أعمى وحيساعدنى
- مالكيش دعوه ده بيشوف أحسن منى ومنك
- حاضر يا شيخ أروح له بس المغرب على أوان والدنيا حتضلم أروحه له دلوقتى
- أيوه يا بنتى الله يسهل لك أمورك يا بنتى بس روحى له لوحدك سيبى بنتك عند حد من جيرانك أو معارفك
- أمرك يا شيخ هريدى بس هو حد حيستحمل صواتها
- إطمنى فيه معاها حد من أهلها بياخد باله منها وأنت غايبة
يهرب ضوء الشمس في عجاله تبدو ظلال المقابر وكأنها أشباح تتحرك شواهد القبور تتزاحم في مقابر الغفير العتيقة ظل امرأة تمشى مسرعة نحو حوش قديم يسكنه أبو سليم الأعمى تظهر إمرأة بدينة فجأة وكأنه أتت من العدم تتنفض أم منى لكنها تتماسك وتسألها في هدوء
- هو ده حوش أبو سليم الأعمى
تهز المرأة البدينة رأسها وتشير إلى باب حجرى قديم يبدو منه شاهد قبر متهالك يجلس بجواره رجل قد حطمته الأيام ذو وجه متجعد وعينان بيضاوتان تدخل أم منى بخطوات حذرة وقبل أن تتكلم يبدأها الرجل بإبتسامة وبكلمات واثقة
- تعالى يا أم منى أهلا وسهلا
- وكمان عرفتنى يا شيخ
- أنا مش شيخ يا بنتى أنا أبو سليم الأعمى
تنكب المرأة على يده تحاول تقبيلها إلا أنه يسحبها بسرعة ويأمرها بالجلوس بجواره على تراب المقبرة
شوفى يا بنتى أنا ماحبش الكلام الكتير جوزك مسجون عند أهله اللى غضبانين عليه و بيتعذب جامد
- أهله مين يا عم
- جن الأرض الرابعة يا بنتى
- يالهوى إنت كمان
- يا بنتى دى الحقيقة ومش ح نهرب منها
- طيب وأعمل إيه
- – ولا حاجه يا بنتى لا أنا ولا إنتى نقدر نعمل حاجه
- طيب وأنا جايه لك بقى ليه وتبكى في قهر
يبتسم الرجل في هدوء
-يا بنتى أنا عايز أريحك
-تريحنى إزاى أنت تعبتنى تعبتنى أوى
-أم منى أنا مقدر اللى إنت فيه أنا ح أقولك على اللى تاعبك وعايزه تعرفيه جوزك من الجن عشقك وإتشكل في جسم إنسان علشان ترضى بيه لكن ده أغضب أهله وهم غضبهم وحش عرفوا مكانه وخطفوه وسجنوه وبيعذبوه علشان عصى قوانينهم وإتجوزك
-ومنى يا أبوسليم ماخطفوهاش ليه هي كمان
– كل حاجه ماشية بقانون حتى تحت الأرض هم أخذوا إبنهم ولازم إنتى تديهم بنتهم
وهو أقرب ليها منك لأنها من جن الأرض الرابعة زيهم وهم عارفين إنك حتسلميها لهم في الآخر
-طيب وإيه الحل
- ولا حاجه يابنتى تضحيه بسيطه منك وتتحل مشكلتك
- تضحيه إيه إوعى تكون تقصد أسيب منى
- بالظبط يا بنتى
- لا مش ح اتنازل عن ضنايا أبدا ولا للجن الأحمر حتى
- يا بنتى النهارده ممكن تقدرى عليها بكره لأ
- لأ ليه
- لإنه حتتغير وتبقى جنيه حقيقية
- مش معقول الكلام ده
- ده يا بنتى اللى عندى مش ملاحظة إنها عمرها ما كانت بتصرخ وأبوها في البيت
- أيوه فعلا وكان الوحيد اللى بتنام في حضنه
- لإنهم زى بعض وهى نفسها حييجى يوم تسيبك وترجع لأهلها
- بس دى بنت بطنى وماقدرش على بعدها
- لازم تضحى يا بنتى لازم
- تستسلم المرأة لكلمات أبو سليم القاسية
- – – طيب عايزنى أعمل إيه
- – تجيبى البنت هنا وتمشى
- أسيبها في الترب
- لا تسيبها لأهلها
- أقدر أكلمهم طيب وأحنن قلبهم عليها
يضحك أبو سليم حتى يهتز الضريح
- إطمنى يا بنتى دول أحن عليها منك
- لا ماتقولش كده وتبدأ المرأة في النحيب
- طب وجوزى
- مابقاش جوزك خلاص خلوه يطلقك ويتنازل عن البنت لهم
- كمان أنا اللى أستاهل
- لا يا بنتى إنت مسكينة إنضحك عليكى وماكنتيش تعرفى دى كانت غلطه إشتبور
- إشتبور مين
- جوزك قصدى طليقك وأبو منى
- أعوذ بالله منه ومن اللى عمله في
وتبدأ في اللطم على خديها
- إهدى يابنتى اللى حصل حصل
- طيب في الآخر أجيب البت هنا يعنى
- أيوه جيبها وإنسى كل حاجه وعيشى حياتك وإتجوزى
- – أتجوز تانى وهو ده معقول وتبتسم فجأة
- ولما حد حييجوزنى أعرف إزاى إنه مش من تحت الأرض
- يضحك أبو سليم قائلا
- – – إبقى جيبيه عندى أكشف لك عليه
تنهض المرأة في ضعف وتخطو على مهل وعلى فمها تبدو إبتسامة كسيحه بينما يودعها أبو سليم بعينيه العمياوتين.