مارتن بوبر
ترجمة: أكرم أنطاكي
اللوحة: الفنان الأميركي أندرو وايث
ثلاثة هي المجالات التي يترعرع فيها عالم العلاقات:
الأول هو حياتنا في قلب الطبيعة. هنا تترنح العلاقة كئيبةً أخفض من مستوى الكلام. فالكائنات تعيش وتتحرك ضدنا وليس بوسعها أن تأتي إلينا. وحين نتوجه إليها يبدو وكأن كلماتنا تتشبث بعتبة الكلام.
الثاني هو الحياة مع البشر. هنا تتفتح العلاقة وتتخذ شكل الكلام. هنا بوسعنا تقديم الأنت وقبوله.
والثالث هو الحياة مع الأشكال الجليَّة. هنا تحتجب العلاقة خلف سحابة، ولكنها تفصح عن نفسها؛ إنها لا تستخدم الكلام، إنما تولده. نحن هنا لا نتلمَّس الأنت ولكننا نشعر بتوجهها إلينا فحسب – مشكلين، مفكرين وفاعلين. ننطق بالكلمة الأساسية مع ذاتنا، رغم أنه ليس بوسعنا لفظ الأنت بشفاهنا.
ولكن بأي حقٍّ ترانا نستخلص ما يتجاوز الكلام الذي له علاقة بعالم الكلمة الأساسية؟
في كل مجال وكلٌّ على طريقته، ومن خلال كل عملية تحول نختبرها، نتطلع إلى حافة أنت الخالدة؛ ونتلمس نسمتها؛ وفي كلِّ أنت نتوجه إلى الأنت الخالدة.
***
أنا أتأمل شجرة.
بوسعي النظر إليها كلوحة: كعمود ثابت يتأثر بالضوء الشديد، أو كدفق لطخة خضراء تترافق مع الألوان الزرقاء والفضِّية المرهفة لخلفيتها.
وأستطيع تلمُّسها كحركة: كأوردة متدفقة حين تتشبث، كعصر لباب، أو كامتصاص جذور، أو كتنفُّس أوراق، كتواصل مستمر مع الأرض ومع الهواء – كنموٍّ حاجب لذاته.
وأستطيع أن أصنِّفها وأن أدرسها كنوع من حيث التركيبة وطريقة الحياة.
وأستطيع بصرامة كبح وجودها الحالي وشكلها، بحيث لا يكون بوسعي رؤيتها إلا كتعبير عن قانون – تلك القوانين التي يتم بموجبها، وبشكل مستمر، التوفيق بين مجموعة قوىً متعارضة. أو تلك التي بموجبها تختلط مكونات المواد وتفترق.
كما أستطيع تبديدها وإبقائها، من حيث التعداد، كعلاقة رقمية صرفة.
وفي كل ما سبق، تبقى الشجرة هي موضوعي، في الزمان وفي المكان. تلك التي لها طبيعتها ولها تركيبتها.
بوسعي، على أية حال، تغيير المنحى، إن كنتُ أملك الإرادة والنعمة التي تجعلني، حين أتأمل الشجرة، أصبح مرتبطًا بها وعلى علاقة معها. عندئذٍ، لا تعود الشجرة مجرَّد هو. إنما يصبح بإمكانها التفرُّد.
هنا ليس من الضروري أن أتخلى عن أية طريقة من بين تلك التي أتأمل فيها الشجرة. حيث لا يوجد شيء عليَّ غض الطرف عنه كي أرى، ولا أية معرفة عليَّ أن أنساها. فكل شيء يبقى صورة وحركة، كصنف وكنوع، كقانون وكرقم، كل شيء يبقى من خلال الحدث مترابطًا بشكل لا ينفصم.
فكل ما ينتمي إلى الشجرة متضمن في شكلها وفي بنيانها، في ألوانها وفي تركيبتها الكيميائية، في تفاعلها مع العناصر ومع النجوم، لأن هذه كلُّها متواجدة في كلٍّ واحد.
ليست الشجرة انطباعًا ولا هي لعبة من ألاعيب خيالي، كما أنها ليست قيمة ذات علاقة بمزاجي؛ إنما هي تتجسد قبالي وتتفاعل معي، كما أتفاعل أنا معها – ولكن بشكل مختلف.
لذلك علينا أن لا نفكر بفصل تلك القوة عن معنى العلاقة: فالعلاقة متبادلة.
هل سيكون للشجرة وعي شبيه بوعينا؟ لا خبرة لي بهذا. ولكن إن شئتَ، من خلال ما قد يبدو وكأنه إنجاح الأمر بنفسك، أن تفكك مرة أخرى ما ليس بالإمكان تفكيكه، فليكن! أما أنا فإني لم ألتق لا بروح ولا بجنِّية الشجرة، إنما فقط بالشجرة ذاتها.

مارتن بوبر (1878 – 1965). فيلسوف نمساوي، اشتهر بـ «فلسفة الحوار»، وهي صورة من صور الوجودية، تدور حول التفريق بين علاقة «أنا وأنت» وعلاقة «أنا والشيء». وُلد في فيينا، في أسرة ملتزمة باليهودية، لكنه خرج عن العرف اليهودي ليتابع الدراسات الفلسفية العلمانية. في 1923 كتب مقالته الشهيرة عن الوجود «أنا وأنت». بوبر مشهور بأطروحته عن الوجود الحِواري؛ الذي وصفه في كتاب «أنا وأنت»، لكن عمله مع ذلك تناول مواضيع أخرى عديدة، منها: الوعي الديني، والحداثة، ومفهوم الشر، والتعليم، وغيرها. رُشح لجائزة نوبل في الأدب عدة مرات كما رشح لنفس الجائزة في السلام.