أيمن جبر
اللوحة: الفنان الألماني روفوس كريجر
في الفيلا الأنيقة بالمعادي؛ استيقظت “سلوى” من النوم متأخرا، يكبل وعيها ومِزاجها صداع عنيف وثقيل، ظلت تحدق في السقف طويلا، لا تتحرك فيها جارحة، ترجع بذاكرتها للوراء حيث البداية، بداية الحدث الذي ألقى بها في بئر اليأس، البئر الذي لا أمل في الخروج منه ولا أمل في الحياة فيه، إنها النهاية بلا شك، نهايتها ونهاية ولدها الوحيد “ياسر”.
تعيش “سلوى” مع ابنها الطالب بكلية الطب، الحياة جميلة وناعمة ومرفهة، فالزوج يعمل في الخليج منذ سنوات طويلة، وعندما أنهى “ياسر” الثانوية العامة؛ كان لا بد من أن ترجع معه لمصر، تركت زوجها “سعيد” وحده.
في الخليج، كان الاختلاط قليل بالناس، وكانت الحياة محدودة، ولهذا كان الاستقرار بمصر قفزة كبيرة “لياسر”، حافظ “ياسر” على تفوقه وأخلاقه الساذجة وبراءته في أول عام دراسي، حاز الامتياز، ثم ظهرت عليه في العام الثاني تغيرات ملحوظة في حياته وسلوكه، لم تنتبه الأم إلا حين هبط تقديره إلى “مقبول”، هنا انزعجت “سلوى” وربطت بين تغير سلوكه وتقديره الضعيف، لكن الشاب اعتذر لها ووعدها أن يُحسن في العام المقبل ويستعيد مستواه الطبيعي.
في العام الثالث حدث التغير الجذري الأسوأ، ظهرت له صحبة مستهترة من زملائه، يكثر التواجد معهم، أصبح يطالبها بمزيد من المال، ولم يطل الأمر طويلا حتى اكتشف أنه مدمن!، يدمن أسوأ أنواع المخدرات، فالهيروين لا حل له ولا شفاء منه.
أصبح العراك الصاخب بينهما هو الروتين اليومي، صراخ وبكاء وانفعال، تطور للتلويح من “ياسر” بالعنف، ثم إلى عنف مباشر، والأم تصر على أن يقبل الولد العلاج في مصحة وترفض إعطائه المال.
وفي يوم فاجأ “ياسر” الأم بتغير حاله وميله للهدوء واسترجاع الود والسلام معها، لم يعد يطلب مالا بل أصبح يلتزم البيت مع أمه ويتسامر معها في المساء، يحتسيا المشروبات معا وهما يشاهدا التلفاز، سعدت الأم باسترداد ولدها واحتفت به وأعطته من حنانها، واستراح قلبها أخيرا. وظنت أن الأزمة رحلت وأن الولد استرد وعيه وعقله.
لم تدم سعادتها طويلا، في بداية الأمر وجدت انشراحا ونشوى مِزاجِية في تلك الجلسة المسائية ولم تنتبه لِعِلَةِ هذا التغير، لكنها وجدت نفسها تزداد تعلقا بتلك الجلسة وأصبحت تشعر بمتعة طاغية عقب تناول المشروب السحري.
في أحد الأيام؛ خرج “ياسر” وغاب طويلا ثم رجع متأخرا، فكادت تجن وهي تتألم حتى جاء وشربا وسهرا معا، ولكن كان لتلك المتعة ثمنا فادحا في النهار حين يطبق على رأسها الصداع عقب الاستيقاظ وتشعر بوخز وإرهاق في جسدها، وظلت تلك الأعراض تشتد يوما بعد يوم، في الوقت المناسب الذي حدده “ياسر” حين لَمَسَ في أمه أقصى درجة من الضعف والألم؛ صارحها بجريمته!.
لم يعد يُجدي العتاب أو الغضب فالنتيجة محسومة ووقعت في الفخ وأصبح في البيت مدمنان، لم تجد الأم سبيلا سوى أن تخضع له وتعطيه المال كي يجلب لهما المخدرات، والأيام تنفلت منها وهما قابعان في هذ البئر العميق، وكلما مرت الأيام شعرت باستنزاف فرصتهما في النجاة.
تذكرت “سلوى” كل هذا وهي تحدق في السقف، لم تكن تتخيل أن يتحول ما كانت تتمتع به من عيش رغد هانئ إلى هذا النكد الدائم، ولم تكن تتخيل أن يفعل بها ولدها الوحيد تلك الفعلة التي تتفوق على ما هو متعارف عليه من الخطايا. لقد دار في رأسها كل الحلول الممكنة ولكن لا شفاء من هذا المرض، وكلما قرأت عنه تيقنت من إجماع غالب المتخصصين على نُدرة الناجين.
هَمت أن تخبر زوجها ولكن ما جدوى ذلك؟، كيف تضمن أنه لن يفتك بالولد!، فمهما كانت مشاعره تجاه ولده فالجريمة خطيرة والخسائر فادحة، لقد خسرا كل شيء.
في أحد أيام الصيف وفي الطريق إلى أحد المنتجعات الصيفية، قاد “رامي” السيارة وبجانبه صديقه “ياسر” وهما يُغَنِيان في طرب ويُلَوِحَان بأيديهما في انفعال ويَمِيلا برأسهما في اندماج، “المزاج عالي والدماغ عامرة بالخيالات والهلوسات”، يُمَنيان أنفسهما بأيام من المرح والمُجُون، “خمر ونساء” وأشياء أخرى، خاصة أن “ياسر” قد نال من أمه المقهورة المال السخي الذي يجعل من تلك العُطلة مُتعا ولذات متوالية.
في أحد المنعطفات فوجئ “رامي” بفتاة تظهر فجأة أمام السيارة، حاول الانحراف عنها بفعل غريزي ولكن في انحرافه دهسها، واستقرت السيارة على رمال الصحراء في جانب الطريق، لم يكن من السهل أن يسترد الفتيان رشدهما الغارق في الخَدرِ والذهول، تخشبا في السيارة زمنا يسير، وفي خضم هذا الذهول كان يتعارك في خاطرهما فكرتان؛ الهرب سريعا قبل أن يراهما أحد أو المسارعة إلى الفتاة ليحاولا إسعافها فربما كان هناك أمل.
لم يحظيا بالوقت الكافي لحسم خيارهما حيث أفاقا على شابين طوال القامة ومفتولي العضلات يعصرانهما بأيديهما القوية، ويخرجاهما من السيارة في خشونة وشراسة، دفعا بهما إلى حيث الفتاة التي كانت طريحة على الأرض وبجانبها شيخ عجوز يبكي بحُرقة وهو يضمها لصدره، يناديها أن تتمسك بالحياة وتعود إليه، والفتاة بين الحياة والموت، والموت لها أقرب.
رفع الشيخ رأسه إليهما، وتبدل انهياره العاطفي إلى وجه عابس وقاسي وممتلئ بالرغبة في الانتقام وقال للشابين المفتولي العضلات: “من؟”، فقال له أحدهما وهو يشير إلى “رامي”: هذا الوغد هو سائق السيارة”، فأشار الشيخ إليه بإشارة مخيفة بيده، فطرحا “رامي” على الأرض ثم أطلقا على جسده عدة طلقات فأُرْدِيَ قتيلا. ولم يستطع “ياسر” أن يرفع بصره المشدود إلى جثة صديقه. والدماء الغزيرة تنبع من جسده، مكونة بِرْكة على الرمال. وغاب ياسر عن الوعي.
أفاق “ياسر” في غرفة مظلمة، يَجهل المكان والزمان، يشم رائحة كريهة، ربما هي حظيرة للماشية، سمع صوتا حيوانيا مخيفا، يا إلهي؛ الصوت أشبه بزئير الأسد، تتصاعد المخاوف ويكاد يموت رعبا، فُتح الباب وأضاءت الغرفة ثم نظر من أسفل فرأى الشيخ وأولاده، ثم نظر رغما عنه جانبا فشاهد أسدا يفصله عنه قضبان حديدية.
ربما هو في سيرك؛ وربما هؤلاء يعملون به أو يملكونه، وقف الشيخ أمامه، نظر إليه بنظرة تمزج بين الحِنق والتوبيخ وقال: “أسمع يا ولد، ابنتي في غيبوبة، لا ندري مصيرها، “لكن اعلم أن ما سيصيبها سيصيبك، “يد بيد، عين بعين، نَفس بنفس. لن ندخل عليك لنخبرك، سترتفع هذه القضبان آليا.. “وليرحمك الله”
ثم غادروا سريعا!
طار قلب “ياسر” من الجزع فما ينتظره لا يبشر بخير أبدا. قال لنفسه: “الفتاة ربما في موت سريري وأنا أقرب إلى جوف الأسد”، “ربي لطفا”. “إن كان الموت مصيري؛ لماذا لا يكون الآن وفورا!، هل سأظل وجها ولجها مع هذا الخطر! أترقب اللحظة المشؤومة التي يفتح فيها الباب بيننا! هذا التربص سوف يقتلني في كل لحظة تمر بي في هذا الجحيم”.
أصبح هو والأسد وجها لوجه لأيام عديدة وطويلة، يدخل الطعام من فتحة أسفل الباب، لم يقربه حتى كاد أن يهلك، لم يشعر أن لديه جسد يضطره للطعام، تحول إلى كتلة رعب ملتهبة وتلك الكتلة لا يغذيها إلا مزيد من جنسه، رعب يتغذى ويتضخم على دوامة من الفزع والهاجس والخوف، وبصره مشدود للخطر يزأر ولا ينام إلا غلبة، يسبح في كوابيس من الهول والألم، فالأسد معه في يقظته ومنامه، ولا يستيقظ إلا وهو على وشك أن يكون بين أنيابه فيفيق من النوم صارخا ومرتجفا.
بعد أيام أحس أنه أصبح شبحا، فلو كانت هناك مرآة لزاد فزعه، لأنه فقد كثيرا من وزنه، كان قد اعتاد العيش مع الفزع فمد يده للطعام يتذوقه بغرض أن يتجنب أن يموت جوعا فأجبر نفسه على الطعام حفظا للحياة.
بعد أيام لا يعرف عددها فُتح الباب فجأة وظهر نفس الأشخاص وتقدم العجوز ووقف أمامه بينما هو مستلقي على الأرض، نظر إليه من أسفل وهو مستسلم للقدر ويائس، ولكن وجه العجوز كان هادئا ومختلفا، قال العجوز: في هدوء “اسمع يا ولد” “أنت محظوظ، هناك تقدم وقد تنجو ابنتي، “سوف أنقلك إلى غرفة أخرى، راجع نفسك وأدع ربك، قد رأيت ما فعلناه بصديقك”. ثم انصرفوا سريعا وأغلقوا الباب دون أن يوصدوه، بعد وقت يسير فتح الباب ثانية ودخل رجال لم يرهم من قبل، ربما عمال بالمكان، تقدم أثنان وقاموا بتكتيفه، ثم غرزوا حقنة في جسده، فغاب عن الوعي.
أفاق “ياسر” ولا يدري كم مر من زمن، وجد نفسه ممددا على سرير في غرفة ملحق بها حمام وعلى جدرانها مرآة وفي الوسط وضعت طاولة وكرسي وحيد، في أحد الأركان دولاب فيه بعض الثياب المرتبة.
لدهشته وجدها تناسب مقاسه النحيف تماما، لم يستحم منذ وقت طويل فقد عزله الرعب والذهول عن الانتباه لما تراكم على جسده وثيابه من أوساخ، نظر لأول مرة في المرآة، كم كانت دهشته وهو يشاهد هذا المخلوق النحيف الأشبه بالشبح والذي يشبهه!، رأي نفسه تجسيدا للفوضى والقذارة فأسرع إلى الحمام.
نال لأول مرة منذ وقت طويل لحظات سعيدة تعيده إلى نفسه ومظهره، لم يلبث في الحمام مثل هذه الساعات الطويلة، الطويلة والممتعة، فقد دهش لشعوره بالماء على جسده الذي عطش كثيرا للارتواء، بعد الحمام وبينما يتأمل شكله الجديد أمام المرآة سمع طرقا على الباب!، تبعه صوت لفتاه تنادي عليه باسمه!، لا بد أنهم عرفوا الاسم من هويته التي في ملابسه.
ياسر: “من؟”
الفتاة: “أنا أخت الفتاة المصدومة، سمح لي أبي أن أتواصل معك، أسمي “هدى”.
دفعت بالطعام من فتحة أسفل الباب، ثم سمع صوت خطواتها وهي تنصرف، وظلت الفتاة للأيام التالية تتواصل معه بكلمات شحيحة عند دفع الطعام ثم تنصرف.
كان لهذا التواصل القصير أثرا عميقا في نفسه، فالصوت البشري الذي خاطبه يخلو من أي توبيخ أو تهديد، صوت إنساني مسالم، فمنذ الحادث وهو مُهَان ويشعر بالتحامل.
أنهى طعامه وهو يشعر بالسلام، ولكن هذا الشعور لم يشبعه طويلا، فالوقت يمر بصعوبة والغرفة خالية من أي وسيلة للتلهي ولا يملك سوى الماضي يبحر فيه مصارعا ذكرياته المؤلمة، ظل يتنقل فيما سبق من عمره، يتذكر حياته قبل العودة لمصر وهو يبتسم، ثم يضطرب وجدانه بعنف حين يتذكر ما تلى ذلك من انحراف حين وقع على أصدقاء السوء، وصِدامه بأمه وغدره بها. ظل على هذا الحال أياما كافية لبلوغه قمة الضجر والملل.
في أحد الأيام؛ كان الطعام ملفوفا في أوراق من مجلة، كم كانت سعادته حين قرأ ما فيها، ظل يعيد قراءتها طوال اليوم، في اليوم التالي توسل إلى الفتاة: “هل تتكرمي بإعطائي مزيدا من الأوراق؟ أو تجلبي لي كتابا أو قصة؟”.
هدى: “لا بد أن يأذن أبي، ولا أدري متى يأتي! لكني أعتقد إن أعطيتك مصحفا لن يعترض”.
ياسر: “حسنا؛ أعطني مصحفا، ولكني أرجوك أن تغلفي الطعام بأوراق مكتوبة، تسليني حتى يأذن أباك”، لم تجب الفتاة، وانصرفت ثم مدت إليه بعد لحظات علبة بها مصحف.
ظل “ياسر” أسبوعا كاملا لا يجد سوى القرآن وبعض الورقات ليقرأها، وجد نفسه يحفظ دون عمد بعض الآيات والسور وأيضا يتفكر فيهم، ولكن الأوراق الأخرى لم تكن كافية للتغلب على ملل اليوم الطويل.
بعد أسبوع طرق الباب رجلان ثم دخلا عليه، قاما بتعليق مكتبة على الحائط، كانت تحتوي على كتب كثيرة، علقوها ثم غادروا في صمت. منذ ذلك اليوم، حدث تغير هام في روتين “ياسر”، أصبحت “هدى” كريمة معه بلا حدود في الوقت الذي تتحدث معه، كان الحوار في الغالب يدور لساعات حول ما قرأه، وكان يتعمد أن يطيل الحوار حتي لا تنصرف عنه، يفتح مواضيع ويسأل أسئلة وهي تستجيب وتظل تتحدث معه باهتمام، ولدهشته وجدها تمتلك ثقافة رفيعة، أخبرته أن تلك الكتب التي يقرأها هي من مكتبة والدها، وأنها قرأتها جميعا، علم منها أنها تكبره بعشر سنوات وأنها حاصلة على درجة الدكتوراه في أحد العلوم الإنسانية، ولهذا كان للحديث بينهما أثر عميق في إعادة تكوين أفكاره وقناعاته، فقد كانت تقوم بتحليل كل ما يقرأ وتعطيه الخلاصات التي لم يتمكن بعقله البسيط من الوصول إليها. وبذلك مرت أسابيع تالية وهو في سجنه، وأحست هدى أن قلقه وملله قد خف كثيرا على الرغم من ضجره لعدم علمه بموعد إطلاق سراحه.
وفي أحد الحوارات، طلب “ياسر” منها أن تدخل ليتحدثا وجها لوجه، في أول الأمر رفضت ولكنها في النهاية وافقت. وكان هذا دليلا على ثقتها به فدخولها إليه مغامرة وهي فتاة ضعيفة ولو علم أبوها لثار وغضب عليها وعاقبها.
أخيرا أوفت بوعدها ودخلت عليه في اليوم التالي، رآها لأول مرة، لا يدري هل هي فتاة أم سيدة فهي في منتصف الثلاثينيات وجمالها يضاف إلى ثقافتها فيضاعف انجذابه لها. لم تقبل الدخول إلا بعد أن أيقنت ان حديثهما الطويل قد أحدث أثرا عميقا في شخصيته، وكالعادة بمجرد دخولها شرعا في أحاديث عن قراءاته، هو يعبر عما فهمه وانفعل به، وهي تُعلق وتُضيف عليه من ثقافتها ودراستها، الحديث ممتع واللحظة ساحرة، لم يحظ منذ زمن بعيد بمثل هذا السلام والحميمية، لقد تعلق كثيرا ب “هدى”، نعم هي تكبره بعشر سنوات، ولكن ما وقع له من أحداث جعلها تحتل وحدها خياله وأحلامه، وفي خضم حالة من الاندماج بكل جوارحه، وبينما يستمع إليها وبصره لا يريد أن يحيد عنها وبينما سمعه مشدود لكل ما تتفوه به وبينما يعاني مشاعر التفاعل بجمالها، نظر إلى جانبه دون وعي ولاحظ أنها أهملت الباب وتركته مفتوحا لم يتردد أمام تفكير اللحظة وأسرع إلى الباب وخرج بعد أن أوصده عليها وفر هاربا، ولدهشته وجد أنه لم يكن في منزل أو فيلا!، بل هو نفس المكان الذي حبس به أولا!، عرفه من انتشار نفس الروائح الكريهة التي كانت تملأ أنفه، رأى بعض العاملين هنا وهناك فتسلل متخفيا منهم. وأخيرا وجد نفسه في الخارج. أخذ يعدو بلا توقف لدقائق كثيرة حتى تأكد أنه بعد بما يكفي، ثم ارتمى على الأرض وظل يلهث ويرتعد وهو ينظر إلى السماء في ذهول من تلك المغامرة الطائشة ويقول لنفسه وهو يلهث: لقد غدرت ب “هدى” ومن قبل غدرت بأمي!
بينما هو ملقى على الأرض وأنفاسه متسارعة؛ تساءل أين يذهب؟، فكر في سيناريو عودته لأمه ولأصدقائه ولدراسته، لكنه تخيل الحياة لا تحتمل وهو يحمل تلك الغدرات، غدرت بنفسي وآذيتها حين أدمنت، وغدرت بأمي حين أقحمتها في الفخ الذي وقعت فيه، وغدرت ب “هدى” التي منحتني ثقتها وساعدتني لاسترداد نفسي والتغلب على الحيرة والوحشة التي كنت فيها.
نهض وسار بهدوء حتى وصل إلى المزرعة، تسلل إلى حيث أغلق الباب عليها ونظر من نافذة الباب؛ ولدهشته وجدها جالسة على السرير وفي يدها كتاب تقرأه!
ما هذا الهدوء والثبات؟، كنت أظنها ستصرخ وتستدعي العمال لينقذوها ثم يطاردوني، فهروبي سوف يثير أباها، هل كانت تنتظرني؟ هل أرادت أن تعطيني فرصة لأخوض الامتحان كاملا، يا لها من ملاك!.
حرك المزلاج وفتح الباب ثم جلس على ركبتيه أمامها وهو يبكي، لم يجد في نظراتها أي لوم بل تساقطت قطرات الرحمة من عينيها وهي تربت على كتفه، ناشدته أن يهون على نفسه. زاد انفعاله ونقمته على نفسه.
وصرخ قائلا: “أنا لا أستحق الرحمة ولا المغفرة”. وشرع يسب نفسه ويلعنها، هم بأن يعترف لها بما فعله بنفسه وبأمه. وفجأة فتح الباب، نظر حوله: “أبي، أمي، والد الفتاة، و……. صديقي القتيل” ثم أغشي عليه.
عاد إلى وعيه وهو على سرير في نفس الغرفة. تحوطه أمه بذراعها وهي تبكي. الجميع ينظر إليه بوجه سار؛ وكأنهم طاقم تمثيل في مشهد النهاية.
قال أبوه دون مقدمات: عندما أخبرتني والدتك بما حدث؛ أصابني الذهول والعجز. فليس لي في الدنيا سواك أنت وأمك. ولا وقت للحساب والعتاب؛ فهذا النوع من الإدمان يندر الشفاء منه. عدت سريعا ونزلت في فندق وجاءتني أمك وأخبرتني بكل التفاصيل وتناقشنا. اتفقنا على إيداع أمك في مصحة للعلاج، ولكن بعد أن نقرر ما سنفعله معك. لم أكن أحمل همها؛ فلديها كأم؛ من الدوافع القوية، ما يجعلها تفعل المستحيل، لاستعادة سلامنا وسلامتنا الأسرية. ولكنك، أنت، كنت المعضلة التي لا حل لها. قمت بزيارات لأكبر الأطباء المتخصصين في الإدمان. وأتفق الجميع على أن هذا النوع من الإدمان ينهزم أمام عقبتين؛ العقبة الأولى؛ هي مرحلة بداية انسحاب المخدر من الجسد. فالآلام لا تطاق، والمريض يعاني أشد الآلام الجسدية والنفسية في تلك المرحلة. والعقبة الثانية؛ هي ما بعد الشفاء. فالعودة للإدمان محتملة وميسرة في أي وقت. وغالبا من يعالَج ينتكس ويعود كما كان وأسوأ. وكان الحل السحري عند “هدى” تلك الطبيبة الذكية، التي أوقعني القدر عليها. زعمت أن لديها حلا سحريا لتلك المعضلتين. وعدتها بمكافأة كبيرة، ووافقتُ على خطتها كلها. الفتاة التي صُدمت بالسيارة؛ كانت دمية. صديقك الذي أطلقوا عليه النار؛ كان متواطئا معنا؛ فتظاهر بالموت. الفترة التي قضيتها أمام الأسد؛ كان هدفها أن تصل لأقصى درجة من الفزع. فالفزع سوف يغطي على الآلام النفسية والجسدية لفترة الانسحاب. وضعت كاميرات تكفي للتأكد من عدم وصولك لمرحلة اليأس فتنتحر. كان هناك رقيب طوال الوقت كي يتدخل في الوقت المناسب. بعد نقلك للغرفة الاخرى؛ كانت “هدى” جاهزة لتتولى العلاج النفسي. العلاج النفسي الغير مباشر، والذي يغير القناعات. الطبيب طمأنني أنك عدت لنا سالما وبلا مخاطر الانتكاس.. الحمد لله على سلامتك.