خالد جهاد
برغم الكثير من الأسماء والأعمال الفنية التي قدمتها مصر إلى العالم إلاّ أن جزءًا كبيرًا من أجمل ما فيها وأهم مبدعيها لم تسلط عليهم الأضواء بالشكل الذي يستحقونه وتستحقه رؤيتهم للجمال داخل مجتمعهم وفي الحياة عموماً، ويظل للمجتمع المصري خصوصيته كما لريفه مكوناته وأجوائه التي احتلت مكانةً خاصة ألهمت الكثير من الأدباء والفنانين والتشكيليين وجعلت منه ومن أهله أبطالاً ومحوراً لحكاياتٍ أصروا على أن تستمر على مدار الزمن من خلال أعمالهم كما خلدتهم أعمال الفنان التشكيلي الفذ حسين بيكار..
هو ابن حي الأنفوشي بمدينة الإسكندرية وولد فيها عام ١٩١٣ في الثاني من كانون الثاني/يناير وعرف بجذوره القبرصية التركية، كما عرف بميوله الفنية المتعددة نحو عددٍ كبير من ميادين الفن وتخصصاته التي أبدع فيها جميعاً وكان له فيها بصمته الخاصة، فهو فيلسوف ٌ وموسيقي ومصورٌ وشاعر كتب الزجل على الطريقة المصرية ونسج الرباعيات والخماسيات الشعرية ببراعة، عدا عن كونه صاحب خطٍ خاص به في عالم الصحافة ومؤسساً لصحافة الأطفال في مصر، وامتاز بإجادة النقد الفني وكان صاحب إنجاز ٍ وتفرد من خلال لوحاته الزيتية المتنوعة التي وضعت في مصاف الأعمال الراقية والمعبرة بعد مجموعةٍ من التجارب الهامة والثرية، خاصةً عند مقارنتها بالتوقيت الذي عاشه وعاشه معه الكثير من الرواد في المنطقة وحول العالم..
“نزلت الترعة أنضف البقعتين اللي في هضومي..
واغســل بالمرة من قـلبي أشــجاني وهـمومي..
ســمعت ع البر.. صــوت عم سـعفان وبيومي..
بيقولوا هي المية العكرة عمرها تنضف الأوساخ؟
حكمة اتعلمتها معرفتهاش من كتبي ولا علومي..”
فمن طفولةٍ متواضعة وبيتٍ فقير يخلو من الكماليات والجماليات كان تفوقه الدراسي أمله الوحيد في تغيير وضعه، لكن فضوله الجميل وشغفه بكل ما هو مميز جعله ينظر منبهراً إلى المفارش والمناديل التي كانت تطرزها والدته وتقوم بحياكتها يدوياً، وكان نقش الرسوم الناعمة البسيطة عليها كالأزهار مثلاً ملفتاً جداً له وأصبح بداية التقاطه لمعالم الجمال من حوله، كما أنه برع في العزف على العود الذي كانت تتعلم عليه شقيقته ولكنها لم توفق في ذلك مثله، فتحولت موهبته إلى ظاهرةٍ ملفتة حيث علم نفسه بنفسه وبدأ بتدريس العزف عليه، وبثمن درسه الأول اشترى علبة ألوانٍ زيتية وبدأ منذ ذلك الحين رسم المناظر الطبيعية والأشجار التي كانت مصدر الهامه الأول حتى أنهى مرحلة التعليم الابتدائي، وبعدها هاجر مع والدته وأخته إلى القاهرة ليلتحق بمدرسة الفنون الجميلة العليا بعد وفاة والده بفترةٍ من الزمن..
وكانت تلك بمثابة مرحلةٍ جديدة ونقطة تحول بالنسبة إلى بيكار حيث تعلم في مدرسة الفنون العليا عام ١٩٢٨ عندما كان في الخامسة عشرة من عمره الرسم بالزيت على يد أساتذةٍ أجانب حتى عام ١٩٣٠، بالإضافة إلى أساتذةٍ بارعين من مصر كالأستاذ يوسف كامل والأستاذ أحمد صبري رائد فن البورتريه في مصر آنذاك والذي خلفه في منصبه لاحقاً، حيث توطدت علاقة الأستاذ بتلميذه بعد أن لمس حب بيكار لفن البورتريه الذي يدرسه عدا عن حبه للموسيقى والعزف، ومن خلال إحدى اللوحات الفنية التي رسمها أستاذه له في ١٠ جلسات استطاع بيكار أن يتعرف على مبادئ وأساسيات رسم البورتريه إلى جانب معلوماتٍ هامة في تشكيل اللوحة وبنائها كما أنه تعلم من أستاذه فن التصوير، وبعد تخرجه عام ١٩٣٣ عمل كعازفٍ ومغنٍ ضمن فرقةٍ موسيقية كانت تذاع أغنياتها عبر الإذاعات المحلية مع أهم الأسماء الغنائية في تلك الفترة والتي أصبح بعدها معلماً للتربية الفنية، وشهدت حياته مجموعة من النشاطات والتنقلات بين المحافظات المصرية حتى جاءت فرصته الحقيقية عبر السفر ضمن بعثة إلى مدينة تطوان المغربية..
وبشخصيته الفريدة وموهبته الخاصة والقادرة على النمو والتطور والتشكل والقولبة دخل مع تجربته المغربية عالماً جديداً أضاف إلى تجربته وقدراته، حيث عمل في فترةٍ حساسة هي فترة الحرب الأهلية الإسبانية بين عامي (١٩٣٩-١٩٤٠) وفي منطقةٍ مغربية تحتلها إسبانيا ولذلك كانت لغتها تدرس جنباً إلى جنب مع اللغة العربية، وطلب منه حينها عمل رسومٍ وصفية لكتاب بدائي للغاية يحتوى على رسومٍ بسيطة كشجرةٍ أو تفاحةٍ أو قطة وهو ما دفعه لإنجاز كتابين كاملين في ذلك الوقت، ومعهما اكتشف بيكار اللغة البسيطة التي تصل إلى وجدان الطفل فقال بيكار عن تلك التجربة مستذكراً (لقد أعطوني فكرة عن شيء كنت أجهله).. فأضافت هذه الخطوة إليه مما جعله يصنع علاقةً متميزة ب (دار المعارف) عند عودته إلى مصر والتي
كانت في ذلك الوقت أكبر دار نشر فعمل كمستشارٍ فني بها، وكان يصمم أغلفة الكتب التابعة لها إلى جانب كل مطبوعات الدار في ذلك الوقت، ومنها قصص بأكملها ككتب الأستاذ كامل الكيلاني (رائد قصص الأطفال في العالم العربي) حيث كان يفكر في تعليم القراءة من خلال العين كإحدى مميزات الرسم بحيث تنطبع في ذهن الطفل صورة الكلمة، كما كان السعي إلى تطوير ذكاء التلميذ وعلاقته بالعلم والمعرفة والجمال أولوية ً وهدفاً وأسلوباً بالنسبة له..
فبدأ بيكار إنجازاته في هذا المجال مع سلسلة (الكتاب العجيب) والتي قامت (دار المعارف) بإصدارها بعد انتهائه من تأليف القصة ورسمها، كما طلب من زملائه الفنانين أن يشاركوا ويقدموا إبداعاتهم فيها وذلك تحت شعار (اكتب كتاب وأرسمه) ومن بين هؤلاء الفنانين الكبار (إيهاب كامل، يوسف فرانسيس، جورج الهجوري، فايزة مرقص) وغيرهم من الفنانين، ورغم غزارة انتاج حسين بيكار إلا أنه لابد من ذكر أجمل إبداعاته وهي مجلة (السندباد)، حيث تصنف كتجربةٍ هامة على صعيد صحافة الطفل واختيار الرسومات والأفكار والموضوعات والشخصيات والإخراج الفني، حيث شكلت استمراراً للثقة التي أولتها (دار المعارف) مع رئيس تحرير المجلة وصاحب فكرة هذا المشروع (محمد سعيد العريان) للفنان حسين بيكار، وشكلت علامةً فارقة في مسيرته وساهمت في تكليفه برسم كتب القراءة الجديدة للصفوف الأربعة الأولى بالمرحلة الابتدائية واسم أحدها (كتاب الأرنب شرشر)، وكانت تجربة جديدة لإدخال أسلوب تعليم القراءة من خلال الصورة المرسومة ضمن المناهج الدراسية حتى استقال من العمل في كلية الفنون الجميلة ليتفرغ للرسم الصحفي الذي كان يمارسه في الأخبار منذ عام ١٩٤٤، وحقق معه نقلةً نوعية وقفز معه قفزاتٍ هامة في عالمي الرسم والصحافة فغير شكلها التقليدي وكسر الشكل المتعارف عليه وصنع خطاً متميزاً يشبهه..
فلم يكن بيكار مجرد فنان ذو ثقافة ٍ واطلاع على التجارب والمدارس والأفكار المتجددة أو مكتفياً بمواكبتها، بل كان صاحب بصيرةٍ ورؤيةٍ قادرة على توظيف المعاني بما يناسب ويوائم البيئة التي جاء منها، وكان أول فنانٍ يقوم بتصميم ورسم أغلفة الكتب والروايات للكبار فكانت باكورة أعماله كتاب (الأيام) للدكتور طه حسين والذي حمل غلافه كلمة (الأيام) بخط يده، لتتعدى الكتب التي رسمها لاحقاً حتى رحيله الألف كتاب، وبذلك يعود له الفضل في نقل الرسم الصحفي وكتب الأطفال وأغلفة الكتب من الغرب إلى مرحلةٍ مغايرة امتازت بالابتكار وتعزيز الهوية والثقافة المحلية وهو ما يدل بلا شك على تميزه وسعة أفقه، فكان أثناء عمله في دار (أخبار اليوم) مهتماً بالغوص في عوالم نوعٍ جديد من الأدب وهو (أدب الرحلات) الذي كان حديثاً على المدرسة الصحفية آنذاك، حيث استعان بالمزاوجة بين الريشة والقلم لتوثيق ومواكبة رحلاته وجولاته الصحفية حول الكثير من بلاد العالم وكانت تجربةً هامة فعلياً على أكثر من صعيد..
ولم يكن بيكار وهو أحد المولعين بفن البورتريه يستطيع أن يرسم ما لا يشعر به فهو يقيم علاقةً حميمة مع كل التفاصيل التي تخطها أو تجود بها ريشته لينسج منها روابط متينة تختصر مشاهد حياةٍ بأكملها، فتبدو ملامح هذه الرابطة جلية في كل لوحةٍ من لوحاته بحيث يخيم عليها هالةٌ من الروحانية والإجلال والاحترام لصوت الطبيعة والأرض التي تفيض بالأمومة وتؤكد على التصاق حسين بيكار بكل ما يتصل بإرثه الوطني والثقافي والحضاري، وهو ما أكدته مشاركته البارزة في الستينيات في الحفاظ على آثار النوبة وتوثيقها وتأريخ هذه العملية الهائلة، حيث تفرغ لمدة عامين ورسم وحده قرابة الثمانين لوحة والتي تجسد ٣٥٠٠ سنة من الإرث الفرعوني ويتخيل فيها بناء (معبد أبو سمبل) كما شارك في كتابة سيناريو فيلم تسجيلي بعنوان (الأعجوبة الثامنة) مع المخرج الكندي جون فيني للخروج بالتفاصيل على أكمل وجه بعد تدقيقها وتصحيحها، إلى جانب مشاركته مع موسيقارٍ ايطالي في تأليف الموسيقى التصويرية من خلال العزف على الطنبور وتأديته لهمهمات فرعونية بنفسه لهذا العمل..




كما أننا نجد اهتمامه بنقل أدق جوانب الحياة لدى الإنسان البسيط سواء كان ذلك في كفاحه لتحصيل رزقه أو مشاركته لمن حوله في مختلف النشاطات أو الواجبات الاجتماعية، أو حتى في لحظات الاحتفال والفرح التي كان يصر على تأريخها وسط أجواءٍ من العمل والحصاد والصيد ورعي الأغنام ليؤكد على أهميته كجزءٍ من هوية الفلاح التي تلازمه في معظم الأحيان والتي تشكل أيضاً سعادته ومعنى وجوده الحقيقي، كما أن المرأة عنصر فاعل جداً في كل أعماله حيث اهتم بإبراز دورها مع الرجل جنباً إلى جنب في كل مناحي الحياة دون استثناء مع خلق حالةٍ من الاحتفاء بها وتدليلها وتكريمها كمصدرٍ للسعادة وشريكٍ لا غنى عنه على مدار الأيام، وبرغم تنوع رسومات فناننا إلا أن الجمال الأسمر بدفئه وسحره وعذوبته كان محل اهتمامه حيث سعى من خلال أعماله إلى التشديد على هذا الرابط بين سمرة أبناء هذه الأرض وتسليط الضوء على أهمية هذا المعنى.. معنى التجانس والتماهي بين الوطن والتراب وأهله في قيمةٍ لا تعلو عليها قيمةٌ أخرى من حيث التشديد على الانتماء للجذور وليس التعصب للون أو عرق كما قد يعتقد البعض..




وخلال مسيرته الحافلة صدر للفنان بيكار كتابان هما (صور ناطقة، رسم بالكلمات) كما نال العديد من الجوائز والأوسمة منها: وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى من الحكومة المصرية عام ١٩٧٢، جائزة الدولة التقديرية في الفنون من المجلس الأعلى للثقافة عام ١٩٨٠، وسام الاستحقاق من الطبقة الأولى عام ١٩٨٠، جائزة مبارك في الفنون من المجلس الأعلى للثقافة عام ٢٠٠٠..
ومن خلال هذه المسيرة الحافلة لمبدعنا نستطيع أن نتلمس معنى وقيمة الموهبة الفطرية التي قد تأتي معاكسةً لكل الظروف من حولها لتؤكدها وتثبت أن صدقها هو الضامن الوحيد لاستمرارها وأن الشغف الحقيقي هو ما يمكن أن يصنع الفن في صورة إنسان..

حسين أمين بيكار (2 يناير 1913 – 16 نوفمبر 2002) فنان تشكيلي مصري من أصل قبرصي تركي. أحب الموسيقي منذ نعومة أظافره، كما كتب رباعيات وخماسيات زجلية. وهو صاحب مدرسة للفن الصحفي وصحافة الأطفال بصفة خاصة ويعتبر رائدها الأول في مصر.