د. محمد جابر لطفي
اللوحة: الفنانة الفلسطينية شروق القواسمي
تمر الأعوام وكأنها حلم يتهادى.. ريح تهب بين أزقة متعرجة تطل عليها شواهد قبور بلا عدد يزحف الصمت كعادته يلامس الهواء وتراب مقابر الغفير.. امرأة تجلس متكومة تكاد تخطؤها الأعين تلبس جلبابا قد باع لونه منذ سنوات عديدة وتضع كفيها على وجهها الذى جف كغصن شجرة قديم وفجأة تمد يدها إلى الأمام وكأنها تتحسس الفراغ تبتسم المرأة في وداعة كاشفة عينا يسودها لون أبيض قاتم وتقول
- أهلا.. أهلا يا منى
يتردد صوت أنثى أجش وكأنه يأتي من كل مكان
– أهلا يا أمّا.. مالك قلقتينى مش ده الميعاد اللى إتفقنا عليه أطلع لك فيه
–معلش يامنى يا حبيبتى حصل ظرف ماكنتش عامله حسابه
– آه يا أمّا طول عمرك كده مغلبانى ومغلبه نفسك.. مين بقى التعبان ولا التعبانه اللى عايزه تساعديها
تضحك المرأة بصعوبة
– يا حبييتى ده نصيبى في الدنيا دى إنى أساعد المحتاج..يا بنتى ده الطريق اللى مريحنى وبأمشى فيه بأعمل لأخرتى اللى قربت
– بعد الشر عنك يا أ أمّا ولو إنه مش شر ولاحاجه ده طريق كلنا بنمشى فيه ولازم نخلصه
تخفت أم منى من صوتها وكأنها تخشى الحديث
–منى يا قلبى من غير مالت وأعجن زى ما إنتى بتقولى واحد جالى من ساعة وحالته صعبه كرب
–عارفه يا أمّا لكن الراجل بالذات مش ح أقدر أساعده
– ليه يا بنتى بس
يتبدل صوت منى إلى صراخ يصم الآذان وتبدأ كتلة من اللهب القانى في الظهور
– أمّا.. إنتى عارفه إنى مابادخلش في الحالات اللى زى دى.. ده ساحر يا أمّا ومصاحب اللى ساكن في الأرض السابعة و مش ح أنطق إسمه على سطح الأرض
– عارفه يابنتى بس ده جالى وعايز يتوب ويخلص من العهد المنيل اللى ربط بيه رقبته
–ولو يا أمّا..التوبة دى بينه وبين ربنا لا أنا ولاإنتى لينا دعوه
–منى أنا ناديتك مش علشان تساعديه يخلص من اللى مايتسماش وبس أنا عايزاكى تكلمى جدك يساعده في إنه يتحل من العهد اللى كتبه على نفسه بينه وبين اللى مايتسماش
– جدى مش ح يوافق وح يغضب علّى إنى إتدخلت في حاجه زى كده
–يابنتى المحاولة مش ح تضر
–لا حتضر يا أمّا وإنتى كمان أول اللى حيتضروا
– عارفه يا بنتى بس حاله قطع قلبى وحال أولاده كمان وخصوصا العيلة الصغيره
–تانى يا أمّا تانى عيلة صغيرة تانى وطبعا فكرتك بى
تضحك المرأة العمياء
–أيوه يامنى طول عمرى فاكراكى ومش ح أنسى لغاية ما أموت إنى كنت بأحضنك في صدرى
يتبدل صراخ المخلوقة الخفية إلى صوت هادئ حنون
– ولا انا يا أمّا عمرى مانسيت حضنك وأدينى بازورك كل شويه حسب ماتفتح البوابات الرمادى
– يعنى مافيش فايدة خلاص فهمت
– أيوه يا أمّا مافيش فايده ويبدأ الصوت الهامس في التلاشى
***
عاد الصمت يجلس بجوار أم منى العامية من جديد ثم تهمهم المرأة بكلمات خافته وتعود بذاكرتها إلى سنوات قديمة خلت عندما أخذ أبو سليم بيدها بعد أن أصبحت عمياء مثله حتى أسكنها هذا المكان الخرب وذهب تاركا طرقات عصاه تدق الطريق الترابى وتلف المكان وتبعث الفزع في قلب أم منى
مرت ساعات طوال والمرأة تجلس وحيده مستكينة تنتظر المجهول حتى تنهار مقاومتها وتبدأ في الصراخ والعويل
-أنا اللى جبت ده كله لنفسى أبو سليم كان عنده ألف حق كان لازم أنفد بجلدى وأسيب له البنت يرجعها لأهلها بمعرفته لكن أنا أم برضه.. فالحة يا أم.. خلى الأم تنفعك يا هابله آدى إنت عميتى وإترميت بالليل في خرابه كل اللى ساكنين معاكى ماتوا من سنين.. ماتوا من سنين ماتوا من سنين وتظل المرأة تردد الكلمات حتى يخرسها التعب
تمر ساعات طوال ويبدو الزمن متوقفا في حوش أم منى العامية ولاتزال المرأة تجلس القرفصاء تخفى عينيها البيضاوتين وتهمهم بينما تهب نسمات خفيفة في فناء المقبرة تحمل إلى أنف المرأة رائحة غريبه لتهب المرأة واقفة وقد إنتابها فزع عارم وتحرك ذراعيها في الفراغ
– مين ؟ مين؟ مين اللى هنا ؟ إنت ياللى ولعت البخور إنت مين؟ وجاى هنا ليه في الوقت ده؟
تنتظر المرأة أن يجيبها أحد لكن السكون يزحف من جديد ويستقر فوق كل شيء تعاود المرأة أسئلتها مرارا وتكرارا ولا مجيب إلا أن الرائحة النفاذة تشتد وتملأ المكان ثم تجلس المرأة يائسة وتكتفى بهز رأسها مرات ومرات حتى تقتحم أذنيها أصوات هامسه يعلو إحداها ويقول
– –أهلا يا أم منى آنستى ونورتى حوشك
– تهب المرأة فزعة
– مين ؟ مين اللى هنا؟
– إحنا يا أم منى
– إنتم إنتم مين؟
– حتعرفى كل حاجه في وقتها وتتغير نبره الصوت لتتحول وكأنها صوت لأنثى عجوز
– ماتخافيش يا بنتى
– بنتك وإنت مين كمان ؟
تصمت الأصوات فجأة لكن أم منى تستمر في الحديث
– خلاص خلاص مش ح اسأل تانى بس ماتسيبونيش أقعد لوحدى..أنا خايفة أنا خايفة
يتعالى همس المرأة العجوز
– خايفة من إيه يا بنتى؟ إحنا مابنخوفش
– مش قصدى إنتم.. لا أنا فعلا خايفة خايفة من كل حاجه الضلمة اللى مش متعودة عليها وعنيى اللى راحوا والترب والميتين والعفاريت وكل حاجه كل حاجه
ترن ضحكات هادئه من كل مكان
– لا يا أم منى ماتخافيش أبدا أنتى اللى حتخوفى اللى مفروض يخاف بعد كده
– أخوف!! أخوف مين ؟ هو أنا أقدر أخوف نملة ولا صرصار حتى
– أم منى سيبك من الكلام ده واسمعينى كويس
– حاضر خرست أهوه حاضر.. حاضر
تصمت الأصوات للحظات ثم تعود الهمهمات لتتعانق حتى تملأ الحوش
– – أم منى إنتى عارفه إنتى هنا ليه؟
– لا ما أعرفش أبو سليم قال لى تعالى هنا وقعدنى ومشى مشى من إمتى مش عارفه دقايق ساعات مش عارفه
– أبو سليم ده راجل طيب بتاع ربنا وبيحب لك الخير
– مش عارفه أرد بإيه هو فعلا طيب كفايه إن طمنى على بنتى
– أم منى إحنا إتوكلنا بيكى
– يعنى إيه؟
– يعنى ح تشوفى الدنيا اللى فوق واللى تحت بعيوننا وحتسمعى بودانا وتحس بقلوبنا
– مش فاهمة
– إحنا بقينا إخواتك خلاص إحنا سبعة من الأرض التانيه وحنلازمك طول الوقت
– ح أبقى سحارة ومخاويه!!! يالهوى وكمان مش مخاوية عفريت واحد لا سبعة عينى عليكى يا أم منى يا غلبانه وتبدأ المرأة في النحيب
تتصاعد ضحكات هامسة ويمتد ظل أسود ظهر من العدم إلى كتف أم منى ويهزها في رفق
– إهدى يا بنتى مش حنأذيكى أبدا بالعكس إحنا حنساعدك علشان تقفى جنب التعبان والمحتاج
تتنفض المرأة من لمسات الظل الأسود وتهب واقفه مبتعدة إلا أن الظل يلاحقها ويلف كتفها ويصعد على رقبتها حتى يغطى رأسها كله لتصرخ المرأة فجأة
– يالهوى أنا باشوف أنا باشوف تانى بس إيه أللى أنا شايفاه قدامى ده ؟ مش عارفة عمرى ماشفت حاجه زى دى
– أم منى إهدى شويه
– أهدى إزاى وأنا شايفه شايفه مش عارفه أوصف اللى شايفاه لا أيدين ولا رجلين لا راس ولا عينين
– دى أشكالنا يا حبيبتى وحتتعودى عليها
– ح تعود عليها أمرى لله ربنا يصبرنى
– أمين يا بنتى
– طيب وإيه المطلوب منى دلوقتى؟
– ولا حاجه إنتى حتتعلمى لوحدك إزاى تيجى لنا وإمتى تطلبينا
– أجى فين؟
– الأرض التانية يا حبيبيتى المنظر اللى أنتى شايفاه دلوقتى ده من هناك
– أنزل تحت الأرض يعنى؟
– أيوه وفيها إيه يا ما رجاله وستات نزلوا عندنا
– و حأعرف أرجع فوق تان؟ى
– أكيد يا أم منى إلا إذا كنت عايزه تكملى حياتك عندنا
– لا لا أنا ا عايزه أموت فوق الأرض على الأقل ألاقى حد يصلى على ويدفنى
– حبيبتى الوقت أزف
– وقت إيه اللى أزف؟
– وقت النزول لمكاننا
– وحتسيبونى لوحدى؟
– لا مش حنسيبك أي وقت تطلبينا حنيجى لك
– طيب ليه إثنين بس اللى كلمونى والخمسة الباقيين فين؟
– حواليك.. بس كل واحد ليه دور يا حبيبتى وكفايه أسئلة بقى علشان ماتتعبيش
– حاضر
– نسيبك بخير يا إنسية
ثم يسكن هواء المقبرة وتتلاشى رائحة البخور وتظل المرأة جالسة بجانب أحد شواهد القبور تفكر فيما سوف تحمله الأيام
***
تعود أم منى من رحلة الذكريات وتقف فجأة عندما تسمع وقع خطوات ثقيلة و يقترب رجل ضخم ذو شارب كثيف وذقن بيضاء طويلة ويشق طريقه نحو حوش أم منى حتى يقف أمام أحد الأبواب ليجد المرأة في إنتظاره
– أهلا يا أبو تعبان
– بلاش الإسم ده يا أم منى إسمى شحاته الدكر
– مش مهم الإسم المهم الفعل
– ينظر الرجل في غضب ويتلفت حوله في خوف وكأن هناك من يتبعه
– — عملتى لى إيه يا أم منى؟
– ولا حاجه
– يعنى إيه مش أحنا إتفقنا تحلينى من العهد
– ما تفقناش يا أبو تعبان
– تانى يا أم منى الإسم ده محرم فوق الأرض
– ح أقوله تانى وتالت
– مش مهم عملتى لى إيه ؟ قولى ريحينى أنا تعبت خلاص
– إللّى تعب نفسه يريحها يا شحاته يا دكر
– يعنى إيه؟
– إنت فاهم وأنا فاهمة
– ردوا عليكى من الأرض الرابعة؟
– أيوه ردوا
تبدو على الرجل آثار اللهفة
–وقالوا إيه طمنينى طمنينى؟
–تتوب
–يعنى إيه مش فاهم؟
–تتوب هو ده اللى عندى
– إنتى عارفه معنى الكلام ده إيه الأول؟أنا لو حاولت أرجع في العهد حيمزعنى حتت أمال لو تبت حيعمل فىّ إيه
–أيوه عارفه وعارفه أكثر منك كمان يا أبو تعبان..مش فاكر أم على اللى ربطت جوزها ولا أبو عادل إللىى عميته وشردت عياله ولا أم حسنين الغلبانه اللى مارحمتهاش وحطيت سحرك الأسود في بقها بعد مادفنت.. اللسته طويلة لسه يا شحاته يا دكر
ينتفض الرجل في فزع
– كفايه كفايه يا أم منى انا اللى في مكفينى أنا ماأقدرش أعمل اللى طلبه منى
– آه.. طبعا..أكيد طلب دم زينة
– أيوه وأدبحها لى بإيدى كمان زى ماكنت باجيبله عيال صغيرة وادبحهم عشانه
– أديك حتدوق من نفس الكاس يا بو تعبان طباخ السم بيدوقه وإنت السم بتاعك داقوه ناس كتير أوى
تكسو المرأة سحابة من حزن وتشير إلى الرجل بأن يرحل بعيدا عن المكان
– أم منى ساعدينى أنا عارف إنى غلطت كتير بس ولادى حيتبهدلوا وبنتى زينة دى لسه بترضع مش حيرحمها اللى مايتسماش يعنى مافيش أي حل ولا حتعرفى تساعدى البت اللى بترضع
– امرك لله يا أبو تعبان.. توب يا شحاته بسرعه.. توب يا شحاته بسرعه
يخرج الرجل وكأنه يحمل جبلا فوق كاهله يتلفت ببصره إلى كل مكان وكأنه يخشى من شيء غامض يتعقبه يقلب كفيه في يأس حتى يختفى ويبتلعه أحد الأزقة بينما تعاود المرأة الجلوس وعينيها ملأى بالدموع وتهمهم
– عينى عليكى يازينة.. عينى عليكى يا زينة..عينى عليكى يابنتى.. عينى عليكى!