حسب الله فيلسوفا

حسب الله فيلسوفا

أيمن جبر

اللوحة: الفنان الإسباني فرانشيسكو جويا


تمتلئ
 الأفلام السينمائية المصرية القديمة بمشاهد مُلهمة، ففي فيلم «شارع الحب» يكتشف قائد الفرقة الموسيقية «حسب الله السادس عشر» أنهم انجرفوا وراء أنانيتهم، ولم يفكروا إلا في مصلحتهم الخاصة؛ وذلك على حساب الشاب الموهوب – الذي قام بتمثيل دوره عبد الحليم حافظ – وهنا قال قولته الشهيرة:

«كل واحد يضرب اللي جنبه قلم»، قام كل منهم بصفع الآخر كعقاب وكوسيلة ليسترد الجميع صوابهم. وكان مشهدا لا ينسى.
عندما
 أتأمل واقعنا اليوم، أجد أن الأنا تسيطر علينا جميعا بلا استثناء، ولكن نظرا لأن لدينا ضميرا لا يملك إلا أن يلتهب حين نتجاهله؛ فيلجأ أغلبنا إلى معادلة تسكين الضمير، فنعادل أو نمزج بين شهوة الأنا وفضيلة التدين  خلطة التدين الأناني – فقد يكون الإنسان متدينا.. وهذا حسن، وقد يكون الإنسان أنانيا.. لا بأس، لكن هذا المزيج المتمثل في الأناني المتدين؛ شديد الخطورة! مثلما في الأحماض المركزة الشديدة الخطورة؛ تتركب من عنصرين خاملين، ولكن عندما يتحدان تحدث المصائب والكوارث، لأن الأناني سوف يأخذ من الدين ما يُفيد تلك الخلطة أو التركيبة، وينام الضمير، وينشط الفساد ويَسرح في كل مكان تحت غِطاء الدين.
يزور الابن والده يوميا ويجلس معه ساعة، يُقبل يده ورأسه، يدردش معه ويُضحكه ويُمطره بعبارات الثناء والعرفان، وعندما يُغادر يسأل أباه: «هل تريد شيئا يا أبي؟»، فيشكره الوالد بابتسامة مترددة ومستحية، ولو التقت عين الابن والأب؛ للسعته أشعة الحيرة والحياء والاستغاثة التي تنبعث من عين أبيه، لتُكذب لسان الأب وابتسامته المصطنعة.
يغادر الابن مستريح الضمير كالعادة؛ ويترك أباه أسيرا للوحدة.. أو الهم.. أو العَوز، ربما يحتاج الأب مالا والابن متيسر؛ ولكنه الخجل والكبرياء، ربما الرجل الأرمل يحتاج زوجة تؤنسه؛ والابن يرفض ويمنعه، والرجل مجبر على انتظار وترقب النهاية، وكما يقول المثل: «وقوع البلاء أهون من انتظاره»، ربما يريد أن يحيا مع ابنه وأحفاده، ولكن زوجة الابن ترفض.
من هذه القصة التي هي من الحياة؛ نجد الابن يُريح ضميره ويسد «ثقب البر»
 ..«ببلاش!» لأنه لا يَبر أباه بما هو في أمس الحاجة إليه، بل يَبره بمزاجه وبما لا يُكلفه شيئا؛ وبما لا يفيد أباه بشيء. هل هذه القصة تقترب من توضيح معنى التدين الأناني؟
لو كان الدين هو أبانا؛ هل نحن نبره كما يريد الله؟ أم ننفق عليه من «أبو بلاش»؟، ونَضن عليه بما هو في أمس الحاجة إليه؟ الثري
 الذي يكتفي بإسكات صوت ضمير تدينه في تكرار الحج والعمرة والصلاة بالمساجد، ويظن أنه بهذا يغسل ذنوبه دوريا، لا يمكن مقارنته بالثري الذي ينفق ماله في المساهمة في بناء مدرسة أو دعم ثقافة أو توظيف شباب، فينفق من نعمة الله فيما يسد ثغرات المجتمع وينفع الناس.

الجندي عندما يترك الخدمة على ثغر لكي يقوم الليل؛ هو مضيع للأمانة. عالم الدين عندما يعظ الناس بتوافه الأمور؛ ويترك جواهر الدين فيضيعه ويميعه؛ هو عدو للدين ويطعنه في ظهره.

“يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الْأَرْضِ ۖ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ” البقرة (267)

يجب أن ننفق من طيبات ما أنعم الله علينا، وننفقه فيما ينفع، فيما يسد الثغرات في المجتمع، وليس كما قال المَثل «نطبل في المطبل».
كلنا
 مطمئنون في الدائرة الدافئة الخاصة بنا التي لا ينقصها شيء، الأولاد ومسارهم في الحياة، الوظيفة والدخل المالي، الأمان الاجتماعي. لم يُقصر أحدنا في تولي شؤونه، فنحن موقنون أن من كافح من أجل أسرته فهو مجاهد، ولو مات فهو مع الشهداء!، ونتجاهل أن هذا الدافع أغلبه غريزي، فيندر من لا يفعل. ولكن ما زال الضمير ملتهبا، ففي خارج الأسرة أو في خارج الدائرة المغلقة؛ هناك انتهاكات صارخة، تفاوت طبقي شاسع، تخلف شديد، ظلم وإهانة، غربة وضياع. ولكل منا بَلْسمه الخاص الذي يضعه على الضمير الملتهب ليسكن. هل تدرون ما هي كلمة السر المفقودة عمدا أو جهلا؟
قال أحد الحكماء:

«المجتمع والسلطة محشوران في كوب، والكلمة العليا للمجتمع»، فكلما تمدد المجتمع تقلصت السلطة، وكلما انكمش المجتمع تمددت السلطة، حتى يكون المجتمع زائدة دودية.

عندنا مستويات ثلاثة من التفكير أو الهموم:
1- التفكير في الأمر الخاص.
2- التفكير في المجتمع وهو الأمر العام.
3- التفكير فيما يخرج إلينا من نفايات نشرات الأخبار؛ وهي اللهو الخفي والإدمان الخبيث، نحن ننجز الأول بأنانية. ونتلهى ونخدر ضميرنا بالثرثرة والشكوى في الثالث. ويبقى الثاني يتيما منبوذا متجاهلا ومَقضي عليه بالانحدار بلا قاع، لأننا تركناه للمسؤولين.
نحن لا ننظر للمجتمع إلا بالنقد؛ فنَجلده بألسنتنا ونتبرأ من خطاياه، وكأننا لسنا أبناء هذا المجتمع
! ولا يخطر ببالنا أن المجتمع اللصيق بنا هو الأوْلى من أمورنا الخاصة. فلا يفلح الخاص إلا بالعام؛ فالعام يقتحم علينا كل ذرة من خصوصياتنا. الفقر، الكدر، الهم، الفشل، بطلان السعي، عصيان الأولاد، تخلف الفكر والسلوك والأخلاق، وو..
كل الهم والكدر الخاص لم يأت إلا من العام. فالعام حين يكون حدائق وأزهارا يتسلل عبيره للخاص؛ فيهدأ ويرشد وينتج. والعام حين يكون طفح من المجاري وطرق متعرجة كلها حفر وأدخنة كثيفة؛ يتشكل الخاص على مثاله فيصبح عفنا وصلبا وبلا انسجام. بينما نحن ننتظر أن يصلح الخاص «أصحاب المعالي» الذين نراهم في التلفاز. لم ولن يحدث!! «ما حك ظهرك مثل ظفرك»، لا بد من أن نتعاون فنبحث عن «الأذى فنُميطه عن الطريق» وما أكثر الأذى!
فساد وأشخاص وأفكار وسلوكيات وأعراف ونيات فاسدة وقلوب خبيثة.

هل أقول لكم الحل الذي كتبت كل هذا الكلام من أجله! الحل الذي أخشى ألا تأخذوه على محمل الجد فتنقلبوا على ظهوركم من الضحك! هناك حلان: 

الأول: أن نفيق بالتي هي أحسن ونشتغل معا في الذي بأيدينا ويصب في المجتمع وليس في الأنا.

الثاني: هو ما فعله حسب الله السادس عشر في فرقته؛ أن يقف شعب مصر كله صفا من أقصى الصعيد وحتى شمال الدلتا. وكل واحد «يضرب الي جنبه قلم».

هناك احتمال أن الحرارة التي ستلهب الوجوه والاحمرار الذي سيشعل الخدود سوف يكون الزلزال الذي نحتاجه لنسترد ضميرنا ووعينا. 

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s