نظرية الفئران

نظرية الفئران

صبحي السلماني

اللوحة: الفنان الإنجليزي لويس ويليام وين

مدير المخزن الحازم الصارم الذي لا تمر الذبابة من أمام أنفه، والرشيق الأنيق الذي أعجبت به عاملة الخدمة أيّما إعجاب، والمحاسبة الأربعينية الرصينة والبدينة هي الأخرى كانت قد شغفت به حباً، ولفرط حبها وتعلقها به بمجرد إشارة منه أو همسة كانت على استعداد لتسوية الحسابات الختامية، لكن الرجل الذي لا يفقه إلا في لغة الأرقام صعب عليه التهجي في أبجديات لغة القلوب.

استدعى جميع العاملين ليقف على أسباب النقص الحاصل في المخزن، من فم رجل واحد قالوا: الفئران.. الفئران يا أُستاذ هي المسؤولة عن النقص.

  • وكيف للفئران أن تأتي على المضخات والأسمدة والبذور المقواة.. تساءل المدير؟!

 ولأنهم لا يملكون إجابة مقنعة للرد على مثل هكذا تساؤل، لم يجدوا تعلة أفضل من سرد القصص التاريخية يتعللون بها:

يقولون إن الفئران في الأزمان الغابرة كانت لها أجنحة، وتطير بسرعة عجيبة، ولا يسلم منها الزرع ولا الضرع إذا ماحلت في قرية من القرى..! قال أحدهم.

وربما لأن الموضوع لم يحظ بمستوى من التضخيم بما يتناسب وخطورة الموقف أضاف آخر: ويقولون أن حجم الفأر في تلك الأزمنة كان بحجم القط أو الكلب الصغير أجلكم الله!. 

ويقولون…! 

لكن المدير المتخصص في علم الإدارة وإدارة المكاتب، لم يكن بحاجة إلى سماع مثل هكذا خرافات وأباطيل ترفع من شأن تلك المخلوقات المارقة بقدر حاجته إلى حلول عملية ومقنعة. 

قالوا: المصائد.. المصائد يا أُستاذ هي من تقتنصها وتقضي عليها، وحين أتوا بالمصائد صغار الفئران هي من سقطت، وبكل رشاقة تخطتها الكبار.

وباعتبار القطط تشكل المعادل الموضوعي للفئران أشاروا عليه هذه المرة أن يأتي بالقطط.

  • القطط يا أستاذ.. القطط، ليس أفضل منها من يقضي على الفئران. 
  • القطط؟! تساءل المدير ثم أضاف، ومن أين نأتي بالقطط؟ 
  • ما أكثرها في القرى، وما أكثر منها إلا الكلاب.. كان ردهم. 

جيئ بالقطط، لكن القطط في زمن العولمة كانت قد سأمت تلك العادة القديمة التي تنطوي على قدر كبير من الوحشية والقرف، ولم يكن في نيتها أن تعود إلى المربع الأول، وهي تعقص ذيولها وتنكفئ في أحد الأركان، وجدت أن البحث عن قبضة تراب تواري برازها أفضل بكثير من الانجرار وراء مغامراتٍ لا ناقةً لها فيها ولا جمل. 

مدير المخزن، وهو ينظر بعينٍ إلى الوجوه المتغابية للعاملين ويصغي إلى حديثهم الذي ينطوي على النزاهة والعفة، وبالعين الأخرى إلى الفئران التي عششت في المخزن وفرخت ثم يقارن، ربما لأنه لا يمتلك الدليل القاطع على إدانة أحد منهم لم يكن أمامه إلا أن يتبنى نظرية الفئران، ويخصص دون جدوى الساعة الأخيرة من وقت الدوام للتحري عنها. 

وكون المخزن متخصص في تجهيز المستلزمات الزراعية، وأكثر العاملين فيه هم من سكان القرى القريبة، لم يأخذ الخبر مزيداً من الوقت حتى تسرب إلى القرى المجاورة ومن ثم إلى القرى التي تليها، وكلما ابتعد أكثر ازداد تهويشاً وتعظيماً، حتى صار الناس وهم يتحدثون عن تلك المخلوقات ويبالغون في قدراتها الخارقة، كأنما يتحدثون عن وحوش كاسرة. 

وعلى مبدأ الهجوم أفضل وسيلة للدفاع قرروا أن يهاجموا تلك المخلوقات الخرافية في عقر دارها قبل أن تنفلت من المخزن وتفتك بمزارعهم ومواشيهم وتخرب ديارهم.

تجمهر المتطوعون في (المثابة) وهم يرددون الأهازيج المشفوعة بزغاريد النسوة، ويلوحون بعصي الخيزران التي يعتزون بها أيما اعتزار، والتي لا تُرفع إلا لإحقاق حقٍ أو إزهاق باطل وتوجهوا إلى المخزن، لكن الفئران التي حفظت الممرات الحرجة التي تفضي إلى المسارب والجحور عن ظهر قلب، ليس مثلها من يحسن المخاتلة، تبخرت في طرفة عين ولم يظفروا منها إلا بالنزر اليسير. وما أن شارفت الشمس على المغيب حتى انسحب المهاجمون إلى قراهم والعاملون إلى بيوتهم ولم يبق إلا الحرس المكلف بحماية المخزن والمدير الذي استقفلت عليه كل الحلول وصار يفكر بشكل جدي بإحاطة الإدارة العامة للمخازن عِلماً بالنقص الحاصل في المخزن، ويهيئ نفسه لتحمل كافة التبعات القانونية، الأمر الذي أفقده توازنه فتارة يقلب كفيه وتارة أخرى يهرش مؤخرة رأسه أو يمسح جبينه. 

وأما عن الشيخ العجوز الذي بقى متسمراً في مكانه ومسنداً ذقنه إلى عصاه ولم ينسحب، فهو على ما يبدو مثل (مخّاط الخشب) إن غاب لا يُفتقد وإن حضر لا يُعد وكأن الذي يراه وهو على هذا الحال يكاد يُجزم بأن الرجل ما حضر إلى هنا إلا ليتلقى مزيداً من عبارات السخرية والاستهجان، إذ كيف لعجوز عتيق مثله أن يقوى على مطاردة الفئران؟!.

اقترب من المدير الذي يقف قرب البوابة التي تفضي إلى الخارج وطلب منه أن يأتيه بفأر حي من داخل المخزن.

  • من داخل المخزن حصراً ياسعادة المدير.
  • ماذا؟! ف أ ر… ح ي، ومن داخل المخزن.. ههه، وهل تعتقد أن الإمساك بفأر حي يأتي بالأمر الهين.. صمت قليلاً ثم أضاف، لكن قل لي ما حاجتك به؟ 
  • لك حق أن تسأل مثل هكذا سؤال.. نعم، حتى أنا سألت نفسي هذا السؤال: ما حاجة رجل عجوز مثلي إلى فأر حي، لكنني لم أجد صعوبة في الإجابة، لأنني أعرف أن سعادة المدير هو من يحتاجه وليس أنا. 

انفرجت شفتا المدير واتسعت حدقتا عينية وبنبرة لا تخلو من دهشة أشار بيده إلى صدره وتساءل: أنا….؟!

  • نعم أنت.
  • أغرب عن وجهي أيها العجوز، لا أريد أن أقول إن القانون لا يجيز لك أن تسخر من موظف حكومي، لكنني اقول أنك رجل مسن وعليك أن تحترم شيبتك.. هدأ قليلاً من ثم استطرد في الكلام: لدي من تلك المخلوقات المقرفة ما يكفي لعشرة قرى، وها أنا أحاول أن أتخلص منها لكن دون جدوى. 
  • سوف تتخلص منها يا سعادة المدير. 
  • لكن، متى وكيف؟ 
  • قريباً.. قريباً جدا سوف تتخلص منها، لكن كيف؟ هذا ليس من شأنك.
  • هه.. قريباً جدا سوف اتخلص منها..! قال في داخله، حتى لو كنت قطا متلبسا في جسد آدمي فليس بمقدور قط هرم أن يطارد جوقة فئران فتية. 

ولاعتقاده بأن الرجل العجوز قد بلغ من العمر عتيا وقد أصابه ما أصابه من الخرف، وجد أن التعاطي معه في الحديث والإلحاح في الأسئلة قد يسببان له نوعا من الإحراج والتعب. 

رق له قلبه وطلب من الحارس أن يلبي طلبه. بعد ساعة وربما أكثر من الساعة بقليل جيء بفأر لم يزل على قيد الحياة لكن الخوف والإرهاق أفقداه القدرة على المقاومة أو النهيز. وما أن أحكم الرجل العجوز قبضته على وسطه حتى أغمض عينيه وانكمشت مخالبه وتباطأت نبضات قلبه، لكن هذا كله لم يمنع الرجل العجوز قبل أن ينصرف من أن يربط ذيله بقطعة خيط لا يربو طولها على خمسة أقدام ويترك الطرف الآخر للخيط سائباً، حينها فقط اقتنع المدير بأن فرضية ان يكون هذا الشيخ قد أصابه الخرف وصار يفكر بنفس الطريقة التي يفكر بها الصِبّية، لم تعد مجرد رأي، بل هي الحقيقة بعينها. 

في صباح اليوم التالي استيقظ الناس على حريق التهم المخزن برمته.

شكلت لجنة تحقيقية بالحادث، وعلى الرغم من أن المخزن لم يشهد النور منذ سنين إلا أن قرار اللجنة جاء كالآتي:

بعد إجراء التحري الميداني والاستماع إلى إفادة الشهود تبين أن الحريق الذي حدث في المخزن ناجم عن تماس كهربائي.

توصيات اللجنة: توصي اللجنة بغلق التحقيق واعتبار الموضوع قضاءً وقدراً.

صحيح أن الموضوع انتهى وأسدل الستار على القضية، لكن الشكوك التي ما فتأت تساور مخيلة المدير لم تنتهِ بعد. حين التقى الشيخ العجوز وسأله عن ملابسات الحادث أجاب الأخير:

قبل إحالتي على المعاش كنت مدير مخزن، وكنت أجلس على نفس الكرسي الذي تجلس عليه، ولكي أتلافى أي نقص إذا ما حصل لم أكن بحاجة إلا إلى فأر صغير وقطعة خيط مبللة بالزيت.

  • وما علاقة الفأر وقطعة الخيط في الموضوع.. بصراحة لا أكاد افهم
  • ليس بالضرورة أن تفهم، أضرم النار في الطرف السائب للخيط ودع الفأر يتصرف، لأن الفئران بطبيعتها لا يعجبها أن تموت بعيداً عن جحورها، وإن أفضل طريقة للخلاص منها هو أن تجعلها تحرق بعضها البعض.. وحتى تكون مديراً ناجحاً إياك أن تجعل الفأر وقطعة الخيط يبرحان جيبك.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s