حرف عطف

حرف عطف

محمود حمدون

اللوحة: الفنان الإنجليزي دانتي جابرييل روزيتي

تفحّص محتويات غرفتي، كأنه يراها أول مرة ثم همس بصوت خفيض على رغم عدم وجود أحد غيرنا: قصتك هذه المرة تبدو قصيرة جدًا، فما أن أبدأ في قراءتها حتى تنتهي فجأة كزئبق يتسرب من بين أصابعي، أرى أن تطيل فيها بعض الشيء.

وافقته فيما ذهب إليه وأنا أحكم وثاق حذائي الرياضي الأبيض، غير أنني زدتُ على حديثه، قلت: يا صديق، لم أعد أقف أمام التفصيل، بتُّ أميل للإيجاز. أعلم أن الساقط من كلماتي والمعاني أكثر مما تخط يدي على الورق، لكنني للحق أستمتع بذلك، ربما كنت في الماضي أبخل بحرف أن يطيش بعيدًا عن حكايتي، لكن ذلك زمن مضى، بحلوه ومرّه، مرارته أكثر مما يحتمل أحد.

كنت أكلمه بينما كان يعيد نظره في قصتي مرة تلو أخرى، يهز رأسه بإعجاب أحيانًا، يمط شفتيه بأسى في أخريات، ثم طوى النص ووضعه برفق على طاولة تجاوره، ثم التفت إليّ وقال: أجهدتني بألغازك هذه، لو لم أعرفك من قديم لتاه منّي المغزى، وغابت عن عقلي الدلالات، لكن… ثم سكت.

كنت أتصنع الانشغال عنه بأن قمت بجمع بقايا الجمل المتناثرة على الأرض، أكنس مفردات تدحرجت أسفل مكتبي الخشبي القديم، كثير من حروف العطف تلك التي لا أميل لتوظيفها في النص، ثم جمعتها كلها في إناء خزفي كان قبل أعوام ساحة وغى للطعام، لكن عفّت نفسه الاقتراب منه كما غاضت روحي عن كثير من المبهجات.

بعدها أقمت صلبي، أعلنت صاحبي أنني على استعداد للخروج، قلت بلهجة حازمة كمن عزم أمره من بعيد: سنذهب إلى مقهانا المفضّل، فلا نديم لنا غير قهوة مرة سوداء كقلب الكافر.

فردّ بغلظة: لا أحب المقاهي بخاصة الشعبية، وأكره القهوة إذ تعافها نفسي ولا تقبلها معدتي، المستحب أن نسير بشوارع المدينة القديمة، نتحسس ذكريات بائدة لنا هناك، لربما نستعيد بعض شبابنا.

فجذبته بقسوة من ياقة قميصه الوحيد، زعقت فيه: اعتياد مرارة البن إدمان لن أتخلى عنه، بعدها نذهب حيث شئت.

حين أرخيت قبضتي قليلًا، هدأت نفسه، همس من جديد بودّ: أصبح إيجازك يُذهب بالعقل. قال ذلك وأجزم أنه بسرِّه يلعن كل شيء حوله!

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s