العباقرة والسعادة.. حكايات الفشل والمرارة

العباقرة والسعادة.. حكايات الفشل والمرارة

صلاح حسن رشيد

اللوحة: الفنان الإسباني سلفادور دالي

هل عرف عباقرة الدنيا السعادة؛ وهم الذين أبدعوا في شتى العلوم والفنون والآداب؛ لرقي الإنسانية؛ وإسعاد الناس في كل مكان؟! وهل كانت حيواتهم ترجمانًا صادقًا من السعادة؛ نتيجة التقدير والتبجيل والثناء الذي وجدوه من مجتمعاتهم؟! أم كانوا ينتجون، ويخترعون، والعالم يقف لهم بالمرصاد، ويحاربهم ولا يعترف بهم؟! سنطالع هنا صفحات دامية في حياة هؤلاء النوابغ الذين أسعدوا البشرية؛ فكان فيها الإهمال، والتجاهل، والتكفير، والقتل، والاكتئاب .. الجائزة التي نالوها؛ لسيطرة التخلف، والتقاليد الرثة على الناس في كل اللغات والأزمان. 

سقراط والسم

فهذا هو سقراط(470-399ق.م) الذي طمح إلى نشر العدل، والعلم، وحارب الجهل والخرافة؛ فوجد من السفسطائيين السجن، والقمع، والمنع؛ حتى اقتادوه بعد محاكمات صورية إلى الحكم عليه بالإعدام؛ باحتساء السم القاتل؛ فرحل شامخًا؛ فراجت أفكاره؛ وانمحت دعاوى خصومه وأعدائه.

تكفير فولتير وحبسه

وهذا هو فولتير(1694-1778م) زعيم الحرية؛ الذي غيّر تاريخ أوربا بحياته؛ إذ نقل هذه القارة من التعصب إلى التسامح، ومن التقييد إلى التحرير، وغرس بذلك شجرة الديمقراطية الوارفة الظلال، كما يقول عنه سلامة موسى(1887-1958م) في كتابه”هؤلاء علموني”: “عاش فولتير طوال عمره؛ وفي نفسه حزازة؛ لأن أحد النبلاء استطاع أن يحبسه في سجن الباستيل؛ وأن يراه وهو يُجلَد؛ انتقامًا منه؛ لبضعة أبيات من الشعر ألّفها عنه فولتير”! وبسبب مواقفه وآرائه، تم تكفيره من قِبَل الكنيسة، والنبلاء والإقطاعيين حتى إنه كتب عن نفسه في معجمه الفلسفي قائلًا: “إني أجهل كيف تكوَّنتُ، وكيف وُلدت. وقد قضيتُ ربع حياتي، وأنا أجهل تمامًا الأسباب لكل ما رأيت، وسمعت، وأحسست. وكنت ببغاء تلقنني ببغاواتٌ أخرى! ولما حاولت أن أتقدم في الطريق الذي لا نهاية له، لم أستطع أن أجد طريقًا معبّدًا، ولا هدفًا معينًا؛ فوثبت وثبة أتأمل الأبدية، ولكنني سقطتُ في هوة جهلي”.

روسو والإقطاع

وهذا هو جان جاك روسو الكاتب الذي نقلت أفكاره أوربا إلى عصر المساواة والحرية، بعد عصور التيه والقمع: “حين خبر المظالم المُلوكية، والإقطاعية في فرنسا؛ وحين شاهد البذخ النجس في الطبقات البشرية، إلى جنب الفقر الساحق المهين في عامة الشعب، حين رأى ذلك قال: إن الحضارة كلها نجاسة يجب أن نتجنبها، ونعيش في سذاجة؛ فلا نشتري الذهب، ولا نبني القصور، ولا نأكل على الموائد المُطهَّمة، ولا نقتني الحرير”.

وايلد يعترف بفشله

ويقول أوسكار وايلد عن فشله المريع الوبيل، الذي ما اعتقد أنه سيخرج من قبضته قط: “ما من مرة؛ فشلتُ في شيء إلا أيقنت أنني سبب هذا الفشل، وأحسست بأنني كدت أهدم نفسي بنفسي. والواقع أن ما سبَّبته لنفسي من الفشل أدهى وأمر، من كثير مما سبَّبه الناسُ لي؛ ولهذا أعتقد أن جميع الذين فشلوا في حياتهم- مهما تكن مراكزهم- هم المسئولون الأولون عن فشلهم”.

تولستوي والكنيسة

وهذا هو تولستوي(1828- 1910م) فيلسوف الشعب؛ الذي قاوم الشر بالخير، على حد وصف سلامة موسى: “رأى كثيرًا، واختبر كثيرًا؛ فقد اشترك في حرب القرم في عام 1854م؛ ورأى بعد ذلك حرب السبعين بين فرنسا وألمانيا؛ ورأى أحد القياصرة يُقتل؛ ورأى تحرير العبيد في عام 1861م؛ واصطدم بالكنيسة، التي كان يرفع دينها إلى أعلى مرتبة، وطُرد منها؛ واصطدم بعائلته حين أراد تسليم أرضه الموروثة للفلاحين، وانهزم وصمت”! ولذلك؛ وجدنا تولستوي:” يترك بيته، وأولاده، ويفر إلى حيث لا يعرف؛ إذ لم يكن له وجهة، ولم يكن له مقصد”.

فرويد والإفلاس والنازية

وهذا هو سيجموند فرويد(1856-1940م) رائد التحليل النفسي؛ فلا يعلم الكثيرون أنه: “لم يستمتع بشيء من الرخاء الذي كان يمكن أن يخفف عنه الشيخوخة؛ فإنه عقب الحرب الكبرى الأولى خسر جميع ما ادخره من المال؛ بسبب التضخم في النقد. وفي الحرب الكبرى الثانية، طاردته النازية حتى مات في لندن بعيدًا عن بيته ومدينته”.

خيبات هافلوك إليس

وهذا هو هافلوك إليس، داعية الزواج الانفصالي خلال الربع الأول من القرن العشرين، بمقالاته، وبحوثه، وزواجه، الذي كان على نية الابتداع والتجديد؛ فإنه بعد انقضاء شهر العسل مع زوجته، عاد كل منهما إلى منزله، وحياته الخاصة؛ فلا يلتقيان إلا بميعاد، ولا يختليان إلا بميعاد، كأنهما عاشقان، وهي فلسفة اجتماعية طبَّقها على نفسه، ودعا الناس إليها. وبرغم أفكاره الطوباوية هذه، وسذاجته تلك؛ فقد خانته زوجته؛ فتركته طلبًا للهوى الجنسي مع شاب استسلمت له، كما يقول عنه سلامة موسى، لكن هافلوك لم يطلق زوجته؛ فقد أحبها من كل قلبه، بل إنه حمل رمادها بعد موتها، وذرَّه في الهواء، ودعا لها. ومع ذلك، عاش في فقر مدقع؛ فقد كان يسكن مسكنًا وضيعًا، ويطبخ طعامه بنفسه، وكان دخله قليلًا لايكفيه.

جوركي والسل

وهذا هو مكسيم جوركي(1868-1936م) الأديب المكافح، الذي ناضل بالكلمة، وثار بالقصص الواقعية المؤلمة في عام 1905م؛ من أجل تحقيق العدل، ونشره بين العمال والفقراء في بلاده ضد الإقطاع والرأسمالية المتوحشة؛ فقد بقي أربعين سنة، كما يقول سلامة موسى: “يكافح مرض السل الرئوي؛ حتى حاول الانتحار، والفرار من الدنيا”؛ بسبب رؤياه لمناظر البائسين المشردين في روسيا. واشتغل في جميع المهن؛ فعمل خبازًا، وبائعًا جوالًا، وإسكافيًّا؛ ليجد قوت يومه، ولم يسعد في حياته بتاتًا.

نيتشه والجنون

وهذا هو نيتشه(1844-1900م)؛ الذي ما حفل إلا بالقوة، ونظرية التطور؛ فهاجم الضعفاء، والفقراء، والمرضى، وعدهم عالة على الحياة! فقد قضى عشرين سنة، وهو في جنون؛ حتى أطبق عليه تمامًا؛ إلى أن تم إيداعه في إحدى المصحات النفسية؛ فقد أمات هذا المرضُ جسمه وذهنه، على حد كلام سلامة موسى عنه. مات نيتشه مغمورًا؛ فلم ترثِه جريدة، ولم تذكره جامعة. ثم عاشت البشرية على فكره بعد موته. 

وصية برنارد شو 

وهذا هو برنارد شو؛ الذي قاوم الاحتلال والاستعمار في كل الدنيا، وأجهز على العادات الاجتماعية البالية، ودعا إلى فلسفة السوبرمان؛ فقد عاش حياته نباتيًّا؛ وعرف الفقر والفقراء، ونال جائزة نوبل فسلَّمها لجمعية تنمية العلاقات بين النروج وبريطانيا. وكان يقول: “يجب ألا تقل أعمارنا عن ألوف السنين؛ لأنه إذا طالت أعمارنا، اهتممنا بالدنيا، وأصلحناها. أما مادامت أعمارنا قصيرة؛ فإننا نخطف اللذة والمتعة”. لذلك؛ أوصى بأن يُحرَق جثمانه في المرمدة.

ديستوفسكي والمرض

وهذا هو فيدور ديستوفسكي(1822-1881م)؛ الذي أدخل الأدب الروسي إلى العالمية، فقد ظل طوال حياته يعاني نوبات الصرع، وتم إلقاء القبض عليه، وحُكِم عليه بالإعدام، ثم تم تخفيف الحكم إلى الأشغال الشاقة بالنفي إلى سيبيريا. ولم يذق لذة الشهرة والمال إلا بعد دفنه؛ فقد أتى بالمجد من أوسع أبوابه للأدب الروسي.

رينان ومنع مؤلفاته

وهذا هو إرنست رينان(1823-1892م)؛ الذي أنارت أفكاره ظلام أوربا، وانتشلها من الضياع؛ فقد منعت الكنيسة وقتها رعاياها من قراءة مؤلفاته؛ بتهمة الهرطقة؛ حتى تمنى في أخرياته؛ أن يسمح له ناظر المدرسة الابتدائية؛ التي تعلم فيها وهو صغير كي يزورها؛ ويرى الفصل الذي تعلم فيه؛ إلا أن الناظر قال له: إنه لا يستطيع ذلك؛ لأنه كافر؛ منبوذ من الكنيسة!

هرنانديث شاعر الأغنام

وهذا هو الشاعر الإسباني/ ميجيل هرنانديث(1910- 1942م)؛ الذي لم ينل تعليمًا نظاميًّا؛ فاكتفى برعي الأغنام، وارتداء الصوف الخشن، وناضل بشِعره لتحرير إسبانيا من الفاشية والإقطاع؛ فتم سجنه واعتقاله، حتى مات صبرًا وراء القضبان! وهو الذي نالت أشعاره ثناء الدنيا، واستحسان الناس، على حد كلام العلاّمة الدكتور/ الطاهر أحمد مكي رحمه الله؛ في كتابه(بابلو نيرودا شاعر الحب والنضال).

حرق المؤلفات العربية

وفي البيئة العربية، ترى هل وجد عباقرتنا السعادة في مجتمعاتهم؟! بالقطع لا؛ فقد تم قتل ابن المقفع ظلمًا؛ بتهمة الزندقة والشعوبية. وتم قتل الحلاج والسهروردي؛ بتهمة الشطح والعيب في الذات الإلهية، وتم تكفير إخوان الصفا؛ وحرق مؤلفات أبي حيان التوحيدي، على أنه من المارقين. ولا ننسى المسلسل الدامي الموجع، بحرق مؤلفات ابن حزم، والغزالي، وابن رشد .. ومهاجمة الشيخ الأكبر/ ابن عربي بضراوة، ومنع مؤلفاته.

كما أن المتنبي شاعر العربية الأكبر مات مقتولًا ضائعًا شريدًا، وقضى المعري حياته، وهو يعاني التكفير والتفسيق والعقوق .. وتم تجاهل النِّفَّري؛ كأنه لم يكن. وفي العصر الحديث، تم تكفير الإمام/ محمد عبده رائد الإصلاح والتجديد والنهضة، وهي التهمة ذاتها، التي طاولت طه حسين، وهو الذي ما فتئ يدافع عن العربية والإسلام. واستحلوا تكفير الشيخ/ علي عبد الرازق؛ لأنه أعمل عقله، ونادى بأن الخلافة ليست من جوهر الإسلام. أما الأديبة الكبيرة/ مي زيادة؛ فتم الزج بها في مستشفى العصفورية للأمراض العصبية؛ للحجر عليها وعلى ممتلكاتها، فماتت كمدًا. ورحل شاعر الأطلال/ إبراهيم ناجي مع مجئ ثورة يوليو عام 1952م في مصر، بعد أن تم وضع اسمه على قوائم التطهير، والفصل من العمل ظلمًا وألمًا. ولا ننسى أن الشاعر اللبناني/ خليل حاوي انتحر بعد اجتياح إسرائيل لبيروت عام 1982م، ومن بعده، مات الشاعر الفلسطيني/ معين بسيسو؛ حزنًا على ضياع فلسطين، والتمزق الفلسطيني. ومات السياب، وهو يعاني أوجاعه وأمراضه. أما الشاعرة العراقية/ نازك الملائكة؛ فقضت أكثر من ربع قرن، وهي تئن من العزلة والاكتئاب حتى وفاتها في قلب القاهرة. واعتزل المفكر المصري/ جمال حمدان الدنيا، بعد أن اسودَّت المعايير والأعراف الجامعية في نظره إلى وفاته. وظل شاعر العامية المصرية/ صلاح جاهين في شبه عزلة واكتئاب حاد، حتى رحيله قبل أكثر من ثلاثة عقود. ومنع البعض صلاة الجنازة على جثمان الشاعر السوري/ نزار قباني في لندن قبل عشرين عامًا؛ بتهمة مروقه وزندقته. واختار المفكر المصري/ يحيى هويدي العزلة في بيته، بعد تجاهل تلامذته له في الجامعات المصرية. وقضى الناقد الأدبي/ عز الدين إسماعيل أعوامه الأخيرة معتزلًا، وهو يعاني ظلم تلامذته، وشغبهم عليه؛ ومنعه من الكتابة في مجلات وزارة الثقافة المصرية.

إذاً؛ فما أتعس النوابغ والعباقرة! وما أشقى الأدب والفكر والعلم والفن، حينما يتحكم في مفاصله الرويبضة، والجهلاء الأغرار، وخراف الإنسانية الضالة!

كلهم عانى المواجعْ

كلهم حاكى الفواجعْ

كلهم في الذلِّ قابعْ

كلهم حبسته الفظائعْ

كلهم جلدته القواطعْ

كلهم طردته الشرائعْ

كلهم لفظته المَجامِعْ

كلهم أكلته الوقائعْ

صلاح حسن رشيد

رأي واحد على “العباقرة والسعادة.. حكايات الفشل والمرارة

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s