عن أستاذي صلاح فضل أتحدث

عن أستاذي صلاح فضل أتحدث

د. جمال عبد الرحمن

اللوحة: صلاح فضل بريشة الفنان الهندي راما تشاندرن بابو

هل يتعين علينا أن ننتظر حتى يختفي إنسان من حياتنا لكي نتحدث عن أعماله الحسنة؟ لعلها الرغبة في تجنب شبهة النفاق، لكن الشبهة تزول إذا لم يعد الإنسان في مواقع السلطة. عرفت أستاذي الدكتور صلاح فضل وانا بعد طالب في السنة الرابعة في الجامعة فأبهرني علمه الواسع وشخصيته الآسرة. أستطيع أن أجزم أنه كان أول أستاذ أجلس إليه، إذا وضعنا في الاعتبار معني كلمة استاذ. كان يبث فينا روح النقد، وكان يعاملنا كما لو كنا زملاءه الصغار. كلفني ذات مرة بترجمة نص أدبي، ولما رأي الترجمة قال إنني “ربما أكون مترجما لا بأس به في المستقبل”. من يعرف أستاذنا يعلم أنه متحفظ في كلماته. انتهت الامتحانات وظهرت النتيجة، والتقيته فسألني:

– عملت ايه يا جمال؟

– حصلت على تقدير ممتاز مع مرتبة الشرف. 

– وفي مادتي؟

– حصلت علي جيد جدا

– لكن يا ابني أنا لا أمنح هذا التقدير بسهولة.

أعترف أن سعادتي بتقدير أستاذي ربما فاقت سعادتي بالتقدير العام. بعد ذلك أديت الخدمة العسكرية، وعينتني الجامعة معيدا وأرسلتني لإعداد الدكتوراه في إسبانيا، حيث كان صلاح فضل مستشارا ثقافيا لمصر هناك. 

*** 

وصلنا الي مدريد فوجدنا من يبلغنا أن المستشار يريد استقبالنا في اليوم التالي. رحب بنا في مكتبه، وحذرنا من التهاون في القيام بالمهمة التي جئنا من أجلها، وأوصانا بالتردد على المكتبات الكبيرة والاتصال بالأساتذة، وقال إنه سيبذل ما في وسعه لتذليل الصعاب التي تواجهنا، وإنه سيستقبلنا كل شهر للوقوف علي ما انجزناه، وإن مكتبه مفتوح دائما لكل من يريد مقابلته. كان المعهد المصري للدراسات الإسلامية في عهد صلاح فضل شعلة نشاط ثقافي، ففي تلك السنوات استضاف علماء أفذاذا في الاستعراب امثال غارثيا غوميث وفيديريكو كورينتي وفيرناندو دي لا غرانخا، وغيرهم. أستطيع أن أجزم أن فترة صلاح فضل تمثل العصر الذهبي للمعهد المصري. كنت استمتع بحوار أستاذنا مع دارسين أصبحوا فيما بعد علماء كبار في تخصصاتهم: عبد اللطيف عبد الحليم وحامد ابو احمد، رحمهما الله، واحمد عبد العزيز، بارك الله في عمره. في تلك السنوات كانت هناك قطيعة بين مصر والدول العربية، لكن بيت صلاح فضل استضاف المثقفين العرب، وكانوا يتحدثون فيما يجمعنا لا ما يفرقنا.

*** 

لم يكن صلاح فضل مجرد عالم يدير المعهد المصري للدراسات الإسلامية في مدريد، بل كان -بالإضافة إلى ذلك- إنسانا يدافع بشراسة عن الباحثين. لم يكن يتردد في الاتصال بكبار الأطباء لعلاج الدارسين، حتى لو من خارج التأمين الصحي، وكان له قول مشهور “لو أنني أرسلت الي الوزارة أطلب رأيهم فقد لا يوافقون. لذلك فإنني أعالج الدارس أولا ثم أكتب إليهم”

فعل ذلك معي ومع غيري، ولا أنسى خطابه الي المستشفى الذي كانت تعالج فيه زوجتي ” السيدة/…. زوجة/…. الذي يعد رسالة الدكتوراه في إسبانيا، ويتعهد مكتب المستشار الثقافي بتحمل نفقات علاجها دون حد أقصى”. عندما تزوجت في مصر وسافرنا الي مدريد. اتصل بي المستشار الثقافي للتهنئة بالزواج وبسلامة الوصول، وطلب مني أن نذهب لمقابلته في اليوم التالي. رحب بنا، وقال لزوجتي: “زوجك -مثل كل المبعوثين في الخارج- ثروة قومية. هو هنا لإنجاز مهمة. عليك أن تبذلي ما في وسعك لمساعدته. مكتبنا في خدمتك عند الحاجة”. كان يري أن مهمته الأولي تتمثل في أن يعود المبعوثون الي مصر وقد انجزوا مهمتهم، وكان يغري الحاصلين على الدكتوراه بالعودة الي الوطن.

*** 

أما الجانب الإنساني في عمله مستشارا ثقافيا فلم يكن يقل كثيرا عن دوره العلمي. كان الرجل متفانيا في أداء مهمته، وكانت زوجته الدكتورة قدرية، رحمها الله، تؤازره. كانت تتصل بزوجاتنا، وكن ينظمن معا لقاءات اجتماعية. وكان أولاده، أيمن ونهلة، رحمهما الله. ولميس يسافرون معنا في رحلات الي المدن الإسبانية. أحيانا كنا نلعب تنس الطاولة في حديقة المعهد، وكان الدكتور صلاح يمر بنا، فيقول “المهم بعد اللعب الاستمرار في القراءة”. وكان بيته مفتوحا، خاصة في رمضان. أذكر أنه أرسل مرة يدعوني للإفطار: “قل لجمال ييجي يفطر وإلا سأذهب إليه في بيته وأحضره بالعافية”. 

أما عن لباقته وحلو حديثه فهو يجمع بين خفة الظل وحضور الذهن مع حصيلة هائلة من عيون التراث العربي والأدب الإسباني. كان متواضعاً مع أبنائه الدارسين، لكنك كنت تجد فيه استعلاء المثقف وهو يتعامل مع أصحاب المناصب العليا.

عندما انتهت فترة عمله في مدريد ودعناه باكين، كنا نعلم أن مثله لا يتكرر كثيراً.


ولد الدكتور صلاح فضل، بقرية شباس الشهداء بوسط الدلتا عام 1938، واجتاز المراحل التعليمية الأولى الابتدائية والثانوية بالمعاهد الأزهرية، ومن ثم حصل على ليسانس كلية دار العلوم، جامعة القاهرة عام 1962. وعمل معيدا بالكلية بعد تخرجه حتى عام 1965، ثم سافر إلى إسبانيا في بعثة للدراسات العليا وحصل على دكتوراه الدولة في الآداب من جامعة مدريد المركزية عام 1972، وعمل أثناء بعثته مدرسا للأدب العربي والترجمة بكلية الفلسفة والآداب بجامعة مدريد منذ عام 1968 حتى عام 1972، وتعاقد خلال الفترة نفسها مع المجلس الأعلى للبحث العلمي في إسبانيا وذلك من أجل إحياء تراث ابن رشد الفلسفي ونشره.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s