فواز خيّو
اللوحة: الفنان الإنجليزي جون فردريك لويس
في قرية «رضيمة اللواء» الواقعة على طريق دمشق السويداء، التي تبعد عن شهبا 20 كيلو مترا شمالا، وتبعد عن دمشق 60 كيلو مترا جنوبا، شهبا مدينة فيليب العربي أيام روما، ولدّتُ في عام 1961 على ما تذكر والدتي، وعشت فيها ما يُسمى طفولتي، كان هذا الريف ككل ريف السويداء يعيش الشذرات الأخيرة من عصر الإقطاعيين والمُلّاك، وسبق ذلك بسنوات قليلة قيام حركة ما سمي حركة الشعبية والطرشان عام 1947، حيث كانت حركة جماهيرية شاملة من الفلاحين ضد المشايخ الذين يمتلكون معظم الأراضي، وخاصة آل الأطرش، والمُرابع يخدم عندهم في الزراعة والحصيد والجني بقوت يومه فقط، وتصاعد هذا الظلم حتى انفجر في قرية عرمان، لأن فلاحا تجرأ وبدأ بالحصيد قبل الشيخ المتحدر من آل الأطرش، وحين علم الشيخ أرسل رجاله، وثمة من يقول أن الشيخ بنفسه أحرق الجمل بحمله من القمح، فانفجرت الأحداث وعمّت جبل العرب، وعلى أثرها تم الاتفاق على تحديد حصة شيخ القرية بربع الأرض، والبقية وُزّعت على الفلاحين.
وثمة من قال بأن شكري القوتلي رئيس الجمهورية آنذاك وجميل مردم رئيس الحكومة دخلا على خط الأحداث ودعماها، للحد من سلطة وزعامة آل الأطرش، وعزّز ذلك الاعتقاد أو الاتهام بعدم دعوة سلطان الأطرش قائد الثورة السورية الكبرى لحضور الاحتفال في الذكرى الأولى للجلاء في العاصمة، واعتبر ذلك إهانة كبيرة ليس فقط للباشا وإنما لتلك المحافظة الصغيرة التي قدمت أكثر من 60 في المئة من شهداء سوريا خلال الثورة السورية الكبرى، وبقية حقبة الاحتلال الفرنسي، وذلك حسب الاحصاءات الموثقة في وزارة الداخلة، وكان أبناؤها في طليعة قوات الثورة العربية بقيادة سلطان اجتاحوا المخافر العثمانية في درعا والسويداء ودخلوا دمشق عام 1918 وطردوا القوات العثمانية، وفرش آل المهايني السجاد الأحمر أمام خيل سلطان ورفاقه، ورفعوا العلم العربي في سماء دمشق بعد 400 سنة من الاحتلال التركي البغيض، قبل وصول قوات الأمير فيصل ابن الشريف حسين بأيام، مردّدين: زيّنوا المرجة والمرجة لينا، والذي رفع العلم صالح طربيه ومعذى المغوّش صاحب هذه الأهزوجة، والتي ردّدها دريد لحام في إحدى مسرحياته.. هذه الحركة الشعبية لم تأخذ نصيبها من الدراسة والمكانة.
***
في قريتنا كان المُلاّك من آل عزالدين، وهم شيوخ الحلبيّة ويمتد نفوذهم في قرى عديدة، ومصطلح الحلبيّة يُطلق على العائلات التي نزحت من إدلب وأنطاكيا على أثر مذبحة كبيرة ضد الدروز رتبتها السلطة العثمانية، في نهاية القرن السابع عشر، فنزح من نجا إلى الشوف في لبنان، وبعضهم نزح إلى الجبل على أثر معارك ومذبحة عين دارة في لبنان بين القيسية واليمنية، أي الجنبلاطية والأرسلانية، وبقيت قرى عديدة في شمال إدلب في جبل السماق لم تهاجر.
في تلك الفترة لم يكن هناك شيء اسمه محافظة إدلب، فالمنطقة كلها اسمها بلاد حلب، ونحن الذين جئنا من بلاد حلب يُطلق علينا لقب الحلبية ويشكلون خُمس الجبل. وبقية الجبل يتقاسمه نفوذ وزعامات، آل عامر في شهبا وبعض ريفها، وآل الأطرش في الجنوب و وآل هنيدي في الغرب، وفي مدينة السويداء حيث آل رضوان وجربوع وأبو الفضل ونعيم وغيرها، وآل سلّام ونصّار في الشرق.
المهم كان شيوخ القرية من آل عزالدين لا يختلفون كثيرا عن شيوخ القرى الأخرى من حيث السطوة وترحيل من يتحدى سلطتهم، ورغم أن عددهم قليل في القرية لكنهم يتحكمون بعدة عائلات بسبب المُلك، وزادت سطوتهم نهاية الخمسينيات حيث انضموا للناصرية، وقبيل فترة الوحدة حيث كان العقيد جادو عزالدين أحد أركانها، و كان قائدا للجبهة، وتم تحييده لاحقا كمعظم الضباط السوريين الكبار، حيث عيّنوه وزيرا.
كان آل عزالدين أذكى من بقية المشايخ، حيث استغلوا ملكهم ونفوذ العقيد جادو وأرسلوا أبناءهم إلى مصر فدرسوا في الأزهر وغيره، وجاؤوا بشهادات عالية.
ولضمان استمرار نفوذهم وتفوقهم، كانوا يحاولون قدر الإمكان أن يمنعوا أبناء بقية العائلات من التعلم، وإذا تعلّم أحد يحاولون جذبه من خلال تزويجه من إحدى بناتهم كي يكون تحت إبطهم.
أيضا حين يبرز أشخاص يتحدّون سلطتهم فإنهم يحاولون تزويجهم منهم لوضعهم في حضنهم.
ومع مطلع الستينيات بعد حركة 8 آذار 1963 أصبح التعليم في متناول الجميع، والكثيرون سافروا إمّا للدراسة أو العمل، ولم تعد الأرض مصدر العيش الأساسي، فتلاشت سلطة المشايخ، ونشأ نمط جديد من العلاقات حيث المحبة البعيدة عن الأحقاد والحساسيات، وهذه القرية الصغيرة التي لا يتجاوز عدد سكانها 1500 نسمة ؛ ربع سكانها يحملون إجازات جامعية، ومنهم ثلاثة علماء في مراكز الأبحاث الفرنسية، ومنها الدكتور إحسان عزالدين، وهو ظاهرة كبيرة ومشرّفة، والذي يعالج الناس مجانا منذ ستة عقود في جرمانا وغوطة دمشق.
أول وحدة عربية تحققت هي بين قريتنا وقرية الصورة الصغيرة المجاورة، واستمرت حتى الآن، ويختلفون في كل دورة انتخابية، هل رئيس البلدية من قريتنا أو قريتكم؟
وثمة من يحلم بالوحدة العربية.
من شخصيات وقيم الجبل
جادالله سلاّم: الشاعر الشعبي المجيد، وأحد رجالات الثورة البارزين، ووجيه المقرن الشرقي في طربا.
مرة كان في بيته فسمع أصوات كثيرة لمشاجرة، وبعد دقائق وإذ بشاب بدوي يدخل إلى داره مذعورا والناس تركض خلفه، فأدخله واستطلع الأمر من جمهرة الناس فقالوا له: هذا البدوي قتل ابن أخيك هايل، فقال لهم: والله لن يمسّه مخلوق بسوء، فقد دخل بيتي، ومنعهم من الدخول، فآواه حتى آخر الليل ورافقه حتى حدود القرية كي لا يتعرّض له أحد بسوء، وقال له: اذهب واسكن في الريف الغربي أو ريف درعا، ولا تسكن في المدينة كي لا تطلع في وجهنا، لأننا نتردد إليها فإذا صادفك أحد حتى أنا سأقتلك.
بعد سنتين كان جادالله سلام في سوق مدينة السويداء وإذ هذا الشاب القاتل أمامه، قال له: أنذرتك ألا تتواجد في هذه المنطقة، وسحب مسدسه وأفرغ فيه بضع رصاصات.
وقال قصيدته الشهيرة
هيه ويلي راكبين على السلايل
فوق ضمّر يمّ طربا منحّرينا
واكد زهر الدين: شيخ الصورة الكبيرة، وهي أول قرية في السويداء وأنت قادم من دمشق. أواخر حكم الخلافة العثمانية، كان سلطان الرشيد أحد امراء آل الرشيد المتواجد في دمشق مطلوبا و مُلاحقا من العثمانيين، وقيل له: فقط في جبل العرب قد يستطيعون حمايتك.
جاء إلى الجبل من دمشق، وفي الصورة الكبيرة أول قرية، سأل عن شيخها ودخل عند واكد زهر الدين وأخبره بقصته. قال له واكد : عليك الأمان، علم الأتراك به من خلال مخبريهم، وعند الظهيرة جاء العساكر الأتراك وطلبوا من واكد تسليمهم الأمير.
قال لهم: الأمير عندي وباستطاعتكم تسلّمه، و لكن لن أسمح لكم بالمغادرة حتى يطلع الغداء، تتغدون وتأخذوه معكم.
الغداء كان فعلا على النار، لكنه للضيف الدخيل وليس للمحتلين، وأرسل المفازيع إلى القرى المجاورة وجاءت الفزعة وطوّقوا العساكر الأتراك وقتلوهم كلهم، وركب الأمير حصانه وتابع إلى المقرن القبلي ونزل في قرية امتان حيث الأمير مصطفى الأطرش الذي أكرمه وقال له: هذا البيت بيتك وهذا الرزق رزققك وبإمكانك أن تدعونا للطعام إن شئت. أكرموه لأيام وزوّدوه بمؤونة الطريق، وتابع إلى السعودية، وهناك قال فيهم القصائد، وفوجئوا بعد مدة بأنه طوّب لهم قطعة من الأرض كردّ الجميل.
حمزة درويش: شيخ قرية الحريسة شرق السويداء، كان من قادة حركة الشعبية وهو مجاهد من رجالات الثورة، وكان معروفا بكرمه الكبير، حتى قيل مرة بأنه أورد الخيل على خلقينة السمن، وكانت زوجته من آل الأطرش، فسألوه: كيف تُوفّق بين زوجتك وحربك على آل الأطرش؟ قال : أنا طوال النهار مع الشعبية، وبعد مغيب الشمس وطوال الليل مع الطرشان.
كان حمزة درويش ذكيّا جدا. ذهب مرة إلى الجزيرة وحين علم به أحد شيوخ البقارة دعاه وأقام له وليمة كبيرة، وحين وُضعت المناسف على الأرض سأله الشيخ: من أكرم أنا أو أنت؟
فأجابه حمزة: سيطي وصل لعندك، ولكن سيطك ما وصل لعندي يقصد السمعة أو الشهرة. ما أبلغ هذا الجواب.
بعد أن عاد الثوار من منفاهم في صحراء الأردن والسعودية على أثر معاهدة 1936 والتي وافقت فرنسا فيها على الرحيل، زاره كابتن فرنسي وخرجا إلى الصيد، ومع الكابتن حجلة خاصة اسمها السرّكة حين توضع على الأرض وتُصدر هديلها الخاص تتجمع الحمامات حولها ويتم اصطيادهم، وما إن تجمّع الحمام حتى أطلق حمزة النار على تلك الحمامة فقتلها، صاح به الكابتن باستغراب: لقد قتلت حمامة السرّكة التي تجلب لنا الصيد، فقال له: هذه التي يجب أن تُقتل لأنها تتآمر وتقوّد على رفاقها.
مرة ذات صباح كان ثمة رجل يرعى بأغنامه ومرّ من قرية حمزة درويش ودخل مضافته، ربما كان حمزة مشغولا أو متوترا فقدم له فطورا باهتا، وهو المعروف بكرمه. أكل الراعي ولحظة مغادرته توجه إلى حمزة وقال له: ألله لا يرزقك وغادر. تأثر حمزة كثيرا وسكت.
بعد مدة دُعي حمزة إلى مناسبة في قرية الجنينة مع وجهاء الجبل، وفوجئ أن صاحب الدعوة هو شيخ الصحانوي آل الصحناوي وهو ذلك الراعي الذي أهمله ولم يكرمه كما يجب، فعزّ عليه كثيرا، وزاد على ذلك أن شيخ الصحانوي تقصّد إكرام حمزة شخصيا.
أراد حمزة رد الاعتبار لذلك الشيخ ودعا إلى وليمة لوجهاء المنطقة ومنهم طبعا شيخ الصحانوي. وحين وُضعت المناسف تقصّد حمزة تكريم الشيخ والاهتمام به بشكل خاص، كان الشيخ يلبس عباءته الزاهية فغمس كُم العباءة بالمنسف والسمن وقال لها: كُلي كلي، العزيمة لك وليست لي.
مع الأسف مات حمزة ميتة بشعة في أحداث الشعبية، فقد جاءته ضربة فلقت جبينه.
من رواية «تقرير إلى غودو» (تحت الطبع) للكاتب السوري فواز خيّو
حانة الشعراء 