أيمن جبر
اللوحة: الفنان السعودي عبد الله حماس
حكى لي صديقي أنه كان في قريته عندما يتوفى الفقير، يجتمع على أهله الحزن والكرب، ربما بكى أحدهم بحرقة وبلا انقطاع، يربت القوم على كتفه مواسون، يتطوع أحدهم بتنبيههم: “دعوه يبكي كي يُنفث مابه فيستريح، فالفقيد يَستحق البكاء عليه الدهر كله”.
يقول صديقي: وكان غالب بكاء أهل الميت ممتزجا بسبب أقوى من مصيبة الموت، فالموت قضاء الله ولا راد لقضائه، ولكن هناك سبب آخر يعرفه الجميع ويمنعهم كبرياؤهم من البوح به جهرا، فالمتوفى قد استراح.. أما أهله؛ فمن أين لهم بتكلفة العزاء؟
كان من أعراف القرية المقدسة، التنافس والتفاخر في مراسم العزاء، يتفاخرون بأن فلانا كان مَشهده عظيما، أحيا أهلُه ذِكره بِعزاء مَهيب ومُقرئ شهير، أما مَن عَجز عن المُنافسة؛ يناله العار أبد الدهر!، وسوف يُعَيَّر بتلك الوصمة هو وأهله، كم من فقير باع كل ما يملك كي يفلت من تلك الفضيحة!.
ثم جاء الفرج من عند الله؛ توفي عزيز لأحد العائلات الفاحشة الثراء، الأسرة التي تمتلك السرايا، فما كان من ولي أمر المتوفى إلا أن قال: العزاء يقتصر على الجَبانة!
وكم كانت تلك الحادثة بَركة على كل القرية، نتج عن ذلك أنه؛ عندما يتوفى أحد الفقراء ولا يقدر أهلُه على عَمل سرادق عزاء أو التضحية بذبيحة؛ يقول ما قال الباشا، ثم يُتبعه بقول: “هو أنا أحسن من الباشا؟”
في تلك القرية؛ ظل فقراؤها – وهم أغلب الناس – قابضون على تقاليد العزاء كالقابض على الجمر، الكل يتألم ولا يتكلم، الكل تجاوز فاجعته في العزيز الذي فقده، ووجد نَفسه قسرا مُستَغْرِقا في التحسر على خَراب بيته.
انتظرت القرية سنينا طويلة، وهي ساكنة دون حراك؛ أن يهبط عليها الفرج من حيث لا تحتسب، فلا أمل إلا في تدخل السماء. وهل هذه إلا دعوة العاجز؟ وهل كلهم عاجزون؟ مسحورون؟ مقيدون؟ وهل كل المشاكل يتم حلها من الذين لديهم سلطة ووجاهة؟
لماذا لم يخطر بالبال أن يجتمع أكثر القوم بالقرية وعيا وشجاعة، ما بين شاب وشيخ، حيث تمتزج القوة والحكمة، ويعترفوا بشجاعة أنهم يتألمون ويعانون، ويقرروا إلغاء هذه العادة المتخلفة؟.
تغيير القناعات والعادات المجتمعية، لا يستطيع أن يتصدر لها الفرد وحده، هذه عملية فدائية وربما انتحارية، سوف يُدهس من الجميع، حتى ممن يؤيده بفؤاده في دعوته، تغيير القناعات والتقاليد؛ لا يقدر عليه إلا مجموعة من المبادرين الذين يستحقون لقب النُخبة، بالإضافة إلى أن التغيير لا يمكن أن يأتي دفعة واحدة حتى لو كان حقا.
في فيلم مطب صناعي؛ بطولة “أحمد حلمي”؛ خريج الجامعة العاطل، يعمل مؤقتا في وضع رنات موسيقية على الموبايل ويبيعها للشباب، في إحدى الصلوات في المسجد؛ يُهاجم الخطيب من يضع موسيقى رنات على الموبايل، يستشيره الشاب بعد الصلاة ويشرح حالته المادية المُلحة، يتحجج بأنه يَندر من يَطلب نغمة دعاء، غالب الناس يطلبون “الواوا”!
يعطيه الخطيب فتوى باردة بالتحريم ثم يتبعه بقول: “أنت طلبت النصيحة وأنا نصحتك”. يعطيه نصا وحُكما لا يتفاعل ولا ينفعل بالواقع مهما كان.
عندما يصل أغلب الشباب للبلوغ مبكرا ويظل دون زواج حتى يتجاوز الثلاثين وربما أكثر، هل تكون الفتوى هي نفسها! ويقال لهم صوموا بينما المحظوظون الذين تمكنوا من الزواج فهنيئا لهم وهي أرزاق؟ أم أن الحكم الذي يستند للنصوص لا بد من أن يُزاوج بين تلك النصوص والواقع، فلا يَهدم النص، ولكن يَستند لنصوص أخرى ومباحات، ويستعين بإبداعات تلطف من المأساة، وتخفف من قسوة الواقع؟ مثل أن تنبعث دعوات دينية حقيقية وقوية لتيسير الزواج وأن ننفض عن مراسم الزواج ما هو مباهاة وتسابق فيها والتي تتسبب في الإحباط للشباب غير القادر! وأن تنخفض مطالبنا بحيث لا تنتشر بين الفتيات عدوى الرفاهية وأخواتها، كالتفاخر بأن ابنة العم جاءها شبكة كيلو ذهب…إلخ!
الشباب في بلادنا يُدفعون مبكرا لنفق التعليم والتجنيد، ثم يبتلون بالعجز عن العمل والزواج، ليت المجتمع تركهم ليتعلموا تعليما أوليا ثم ينخرطوا في الحياة الحِرفية مبكرا؛ فيتعرضوا لرزق الله ويتذوقوا الحياة، ولكن غالبهم يسلك الطريق الطويل ثم يسقط مباشرة في بئر الحرمان والعجز.
ألم يعلم هذا الواعظ أن الولد أو البنت قد أكلتهما العزوبة! مجتمع شديد القسوة، يضغط من جميع الاتجاهات، ورجل الدين محدود الفكر والعلم.
في المصنع، عندما يحدث خلل في ماكينة للقماش، وتخرج قماشا به ثقوب قليلة، هل يقوم صاحب المصنع بتعيين عمال ليتولوا معالجة تلك الثقوب؟ أم يقوم بإيقاف الماكينة وتوجيه فني يعالج الخلل في الماكينة حتى يخرج القماش بدون ثقوب؟ الحلول الجذرية هي التي تطهر حياة الإنسان من الشقاء والكدر.
غالب الشقاء الذي يكدر الناس، لا يتسلل إلى حياتهم رغما عنهم، بل يتسلل بإرادتهم وبتغاضيهم عنه، حتى يتخلل بعض ماكينات المجتمع ويحدث الاضطراب، ولهذا لا بد ممن يبادر بالدعوة للتفتيش في الماكينات المجتمعية وإصلاحها.
الواعظ في بلادنا مخير مثلما كان صاحب المصنع مخيرا في اتخاذ قرار معالجة الثقوب أو إصلاح الماكينة.
وللأسف أغلبهم يتخذ القرار الأول، فيكتفي بالدعوة للتبرعات والخدمات التي تخفف قليلا من متاعب الناس، ومتاعب الناس هي الثقوب المجتمعية، ويستحيل سد تلك الثغرة بهذه الطريقة، وليست كل الثغرات تُسد بقرار من الدولة، بل أغلبها بيد الناس، وللأسف يندر بين الناس من يشعر بأنه مسؤول ويدرك تلك البديهة، ويكثر من يوهم نفسه بأن كل المشاكل بيد الدولة.