فواز خيّو
اللوحة: الفنان السوري عصام الشاطر
كان ريف السويداء يعيش الشذرات الأخيرة من عصر الإقطاعيين، وسبق ذلك بسنوات قليلة قيام «حركة الشعبية والطرشان» عام 1947، حيث كانت حركة جماهيرية شاملة من الفلاحين ضد المشايخ الذين يمتلكون معظم الأراضي، وخاصة آل الأطرش.
رغم قسوة بعض المشايخ من آل الأطرش، لكن لا ننكر أنهم قدّموا شخصيات كبيرة ومهمة سواء على صعيد النضال أو الشعر أو الفن وغيره: أسمهان وفريد، والشاعر الفارس متعب الأطرش الذي شكل عقدة للوالي العثماني في دمشق والشاعر شبلي, والأمير حسن زوج أسمهان ومحافظ السويداء نهاية الأربعينات, وزيد الشاعر والرجل الثاني في الثورة والذي وصلت قواته إلى راشيا وحاصبيا في لبنان أثناء الثورة السورية الكبرى, والأستاذ منصور ابن الباشا وأحد مؤسسي حزب البعث, ورئيس المجلس الوطني في سوريا منتصف الستينيات, وسلمان شيخ قرية عنز الذي لُقّب بدبابة الجبل لقوّته وكرمه وقيمه وغيرهم.
كان يمكن لحركة الشعبية هذه أن تنهي زعامة آل الأطرش وكل سلطة المشايخ, لولا ما يحمله الناس لسلطان الأطرش من مكانة تصل حد التبجيل.
سلطان باشا الأطرش.. ليس قرارا أن تكون كبيرا, فتلك جينات تولد مع الإنسان.
ربما هو قائد الثورة الوحيد في العالم الذي رفض تولّي أية مسؤولية أو منصب بعد نجاح الثورة أو الاستقلال, واعتكف في مضافته يستقبل الناس ويحلّ مشاكلهم, ويفلح أرضه ويزرعها بنفسه.
مرة جاؤوا إليه قائلين: فارس الخوري سيتولى رئاسة الحكومة. سألهم: وما المشكلة في ذلك؟ قالوا: مسيحي أي من أقلية لا يحق له. سألهم: هل سيحكم بموجب الإنجيل أم بموجب الدستور؟ قالوا: بموجب الدستور. قال لهم: طالما سيحكم بموجب الدستور فماذا ستفرق إذا كان مسيحيا أو سنيّا او علويا أو غير ذلك؟
ومرة في بلدته القريّا كان مارّا في إحدى الطرقات وإذ بعض إخواننا المسيحيين يؤسّسون لبناء كنيسة, سلّم عليهم ورأى أن مخطط الكنيسة صغير. فسألهم عن السبب فقالوا: إننا محكومون بمساحة الأرض, فأعطاهم مساحة دونم من أرضه المجاورة وقال لهم: ابنوا كنيسة كبيرة تسعنا جميعا, فهي بيت لعبادة الله, فهو لنا ولكم وللجميع, وبنوا كنيسة كبيرة.
كان من أقرب مستشاريه المجاهد عقلة القطامي المسيحي, والدكتور عبد الرحمن الشهبندر السنّي, كاتب خطاباته والناطق الإعلامي باسم الثورة. الدكتور الشهبندر اغتيل بأيدي غادرة في عيادته في دمشق نهاية الأربعينيات, وكان من مؤسسي حزب الشعب, الذي يتقاسم مع الكتلة الوطنية بزعامة القوتلي المساحة السياسية في سوريا آنذاك, وربما لم يُعرف القاتل الحقيقي ولا السبب. كان من الوطنيين الكبار رحمه الله.
نقرأ في مذكرات سلطان الاطرش ما كتب بمحبة واحترام عن المناضل ابراهيم هنانو وثقافته وفكره ووطنيّته, حيث عرّج على سلطان وبقي في ضيافته أياما, ثم تابع طريقه إلى الأردن.
مرة جاء وفد من القيادة لزيارته وكان يفلح في الكرم, وحين جاء من يخبره أن لديه ضيوفا في الدار قال له: فليأتوا إلى هنا, فأتوا إليه, وفوجئوا به يمشي وراء محراثه. سلم عليهم ودعاهم للجلوس على الأرض. بعضهم أحرج والبعض سحب منديلا ليضعه تحته, فقال لأحدهم: لا تدعوا حاجزا بينكم وبين التراب. هذا التراب روي بدماء الكثيرين.
مذيعة أجرت معه مقابلة وفي الختام قالت له: يا باشا نريد منك أن تركب على الحصان وبيدك السيف لنصوّرك. فقال لها: يا بنتي نحن لا نركب على الحصان ونحمل السيف لنتصوّر, فإذا ركبنا على الحصان والسيف في يدنا يجب أن نذهب لنقاتل. وحين بالغ أحدهم في مدحه ردّ عليه: ماذا كان بإمكاني أن أفعل لولا الناس الذين كانوا معي؟
لقد احتل مكانة عند الناس في السويداء تصل حد التقديس, مع أنه ليس برجل دين, وإنما احترمته الناس لنضاله وتواضعه, وحين تحصل مشكلة في أية قرية ولو سقط فيها عدة قتلى فإذا الباشا دخل القرية حُلّت المشكلة تلقائيا, فدخول هذا الرجل إلى بيت المظلوم أو صاحب الحق يعتبره شرفا كبيرا له ويقبل بالصلح, وأحيانا (يُشوّم) أي يرفض أخذ الديّة على فقره.
أستطيع أن أسرد حتى الصباح عن هذا الرجل وقيمه, فلا أريد الإطالة, لكن ما أردته ترسيخ بعض هذه القيم وأقول: ما أحوجنا لهذه الروح الوطنية الجامعة والانسانية في هذا الزمن, حيث سوريا تنزف وتعاني التشتت والضياع.
منتصف الأربعينات حين ماطلت فرنسا في المغادرة بحجة أنها تريد أن تبقى من أجل حماية المسيحيين, دخل فارس الخوري إلى الجامع الأموي واعتلى المنبر وقال: إذا كانت فرنسا تتذرّع بحمايتنا, أنا فارس الخوري أشهد أن لا إله إلّا الله وأن محمدا رسول الله.. هذه هي سوريا.
من رواية «تقرير إلى غودو» (تحت الطبع) للكاتب السوري فواز خيّو
حانة الشعراء 