مآب وائل
اللوحة: الشاعر اللبناني الفنان جبران خليل جبران
اكتشفتُ مؤخراً أنَ القراءَة عن الحياةِ لا تكفي، لزاما عليك أن تمارس طقوسها بنفسك كي تخبرها.. يقولون إنَ البحرَ كالحياةِ تماماً، ولطالما قرأتُ عن البحرِ وجمالهِ وسكونِ تفاصيلهِ رُغمَ عواصفها، دائماً ما قالوا إن مع تِلكَ الأمواج تذهبُ ذكرياتٌ مع الأنسام، ومع أمواجٍ أُخرى تُخلق ذكريات؛ لتترسبَ على الشواطئ، وتنتشر في ذَلِكَ الجسد الذي ستُلامس أناملَهُ أو أقدامهُ الرمالَ.
البحر مصدرٌ إلهامٍ بجمالهِ وتدرجِ ألوانهِ، ومصدر راحةٍ وطمأنينةٍ، ترى هل يعجز باتساعه هذا الذي يفوق اليابسة، وبزرقته التي تنافس السماء عن شرحِ صدرِكَ الضائقِ بالحياةِ؟ كنتُ أعلمُ أنَ كُل ما قيلَ وجميع ما قرأتهُ عن البحر صحيح، كانَ صحيحاً ولكن ليسَ كافياً، في أولِ رحلةِ غوصٍ لي في مياهِ البحار رأيتُ الغموض، رأيتِ تِلكَ المياه المالحة التي كنتُ أعلمُ أنها لا تروي ولن ترحم ظمأي يوماً، لكني جهلتُ أنها تؤلمُ الجروحَ أيضاً، شاهدتُ تِلكَ الكائنات الغريبة، رُغم بغضي لأيِ شيءٍ مجهول إلا أنني كنتُ مُتيمة بحُبِ تِلكَ الكائنات الغريبة.
دنت مني سمكةٍ رقيقة، أحببتُها وبشدة رُغمَ علمي مسبقا، أني سأزهدُ فيها وسأهرب من عالمِ البحارِ إلى عالمي البائس، ظننتُ أكبرَ رُعبٍ لي هوَ اختفاءِ دُميتي، أتذكرُ أني لم أُحركها ولكنَ اختصارَ الرُعبِ هو حينَ قضمت مني تِلكَ السمكة الرقيقة أحدَ اشلائي، لم أبكِ ألماً ولكني صدمتُ، تِلكَ التي عطفتُ عليها وسقيتُها بحنانٍ بيدي أكلت جُزئاً منها! تابعتُ في ذاكَ العالمِ المُخيف، رأيتُ سفينةً مهجورة، قصتُها بالطبعِ ما خلدها التاريخ، وأياً كانت المأساة فلن تكونَ بمأساةِ أُمي وهيَ ترى دموعَ البحرِ تتقمصُ دور ابتسامتي، لكني رأيتُ في أروقةِ تِلكَ السفينة شعاعِ الهجرِ، أعتب على البحرِ، كيف يطبقُ قانون التركِ والرحيلِ المؤلم! على حروبِ اليابسةِ تتناثر الجثث ولا يعيشُ سوى القوي، وفي عُمقِ البحار تنتشر زعانفُ الأسماك ولا يعيشُ سوى ذي الجسدِ المفعم بالمقاومة وبالحياة.
ظننتُ أنَ القروش هيَ أكثرُ الكائناتِ أذى على وجه الأرض حتى ضحكَ مني سطحها الذي جمعَ وحصدَ كل ذاكَ الشر والإيذاء دونَ أن يوردَ الهاً للشرِ، أرى دائماً أنَ الأرض مكانٌ موحش لا مكانَ لي فيه، أنا ذاتَ القلبِ الأحمرِ ورداء الإنسانية لا يمكنني العيش فيها، بحثتُ عن كواكب ومجرات أخرى وتعمقتُ في حُلمِ الهربِ، لكني كُلما هربتُ من ألمٍ أجدنُي أركضُ منه إلى ألمِ جديد، وحينَ أصلُ لخطِ النهايةٍ أرى الآلام تتفاوت، وإذ بهِا تلهو فوزا بالسباقِ بلا تعب، لا أعلمُ أأنا سُلحفاة أو أرنب، لكن تاللهِ ما توقفتُ ولا تكاسلت، سارعتُ ولكن دائماً ما فازَ الألم وانتهت حلولي وتُركَ الأمرُ للحياة التي أكرهُها، والسماء التي أُناجيها ف تُشاركُني البكاء!
أحقاً صدقوا في قولهم الحياة كالبحر؟ أحقاً البحرُ ما هوَ إلا نُسخة مُصغرة من مأسي عالمي ووحشته ولكن في صورةٍ أُخرى مع كائناتٍ مُختلفة؟ رُبما أنا التي أُريدُ الهربَ لعالمِ البحارِ فهُناكَ أيضاً أسماك ترغب للانضمامِ إلى اليابسة، رُبما قصص الطفولة ليست أساطيراً وحسب، كلٌ يرى بعينِ طبعهِ، وأنا عمياء! أكنتُ أهربُ من ذاتي حقاً؟ أخشيتُ الاعتراف بأني أنا الأذى لنفسي؟ أحقاً هرولتُ للبحرِ لأغرقَ فيهِ عوضاً عن الغرقِ في كُلِ تِلكَ التفاصيل المؤلمة؟ إذا كانَ البحرُ ينبوع الماءِ لنفسهِ، أأنا ينبوعُ الألمِ لنفسي؟ رُبما صحيح أنَ الحياةَ ليست كالبحرِ وأني أنا من تُشابه البحر!