أيمن جبر
اللوحة: الفنان الإسباني أوريليو أرتيتا
ظل الحدث مَثار أحاديث الناس طويلا وكثيرا، طال انتظار الناس للخطوة التالية فالموضوع بالنسبة لهم أصبح مثل رواية “علي الزيبق”، شخص بارع في الحِيل يقوم بملاعبة الفاسدين وعندما ينتصر في حيلة تنتشر الحكايات بين الناس وتُشفي صدورهم، وكأنهم يشاهدون مباراة كروية لا دور لهم سوى المشاهدة وتذوق طعم نصر متوهم ولكن لم يصل لحلوقهم، لأنهم متفرجون.
مر وقت طويل؛ ولم تُعلق ورقة، الورقة التي عاين الناس من خلالها نموذجا متجسدا للإيجابية، فهذه أول مرة يدرك الناس أنهم يقدرون وأن هذه القدرة لا تتطلب مخاطرة أو الاصطدام بالسلطات، أول مرة يدرك النبهاء من الناس أن هناك طُرقا أخرى وقضايا أخرى يستطيعوا التعامل معها وتغييرها، ولكنهم مقصرون لأنهم ألقوا منذ زمن بعيد كل مهام العدل والظلم على السلطة، ولهذا اختلت السلطة واختل ميزان مفاهيم وأفعال وتوقعات الناس.
دارت أحاديث بين الشباب وبرزت أفكار ومبادرات تدعوا أن تكتمل القصة بأبطال آخرين، وهذه هي خلاصة الفكرة التي دارت بين مجموعة من المخلصين النابهين بالمدينة، وفي حوارهم الساخن كان معهم رجل يكبرهم ويتفوق عليهم بثقافته وخبرته المعرفية، نبههم إلى أن زمن الأعمال السرية قد انتهى، وثبت على مر التجربة الإنسانية التي استمرت قرنين أن مهما جنى العمل السري من مكاسب فسوف ينهار بأصحابه في أي مرحلة من المراحل وسيكون الناتج للخلف لا للأمام، وأن السرية والاستبداد قرينان، علوي وسفلي، وانهما وجهان لعملة واحدة، ويستمد كل منهما الحياة من وجود الآخر، فمن أردا أن يعمل؛ فلا بد من أن يعمل في النور.
سأله أحدهم: كيف! العلن مقيد؟
قال: وهذه أهم ميزة في العلن، ففي العلن تستطيع أن تُبصر العواقب ثم تنقد وتعارض بحكمة، وتستطيع أن تناشد البعض علنا أن يُساندوك في نقدك وعملك، ولكن في السر سوف تكون بلا قيد، ففي الظلام أنت حر لأنه لا يراك أحد ولن يمنعك أحد، فقد تَقتل وتَفر، وفي العلن فقط ستعترض وترفض وتظل واقفا مكانك ولا تفكر في الفرار، ولهذا مع العمل السري تتراوح خياراتك بين أقصى الطرفين، وفي حجاب الظلام يتصلب القلب، وإن هجم النور فجأة، يسقط القلب في الأقدام فرقا وهلعا، فشجاعة الظلام هي أحلام وأوهام الجبناء.
هذا فضلا عن أن من يعملون سرا، يسهل تصديق الأساطير عليهم، فمن قال لك إنني أضع الفيل في المنديل؛ تضحك على حُمقه، لكن حين يقال على تنظيم سرى؛ أنه يضع الفيل في المنديل، سوف يُصدق الجميع بحماس، لأن السرية بيئة الأساطير.
اقتنع الشباب في مجلسهم بما قاله “صديقهم” الذي عارض السرية؛ لكنهم في حوارهم، ظلوا حيارى في البحث عن تلك الخطوة العلنية التي يوجهوا إليها جهدهم!
تداولوا لليال كثيرة الثغرات في مجتمعهم، وكلما ناقشوا طريقة سد ثغرة مجتمعية انتهوا إلى أن الأمر بالفعل شديد الصعوبة والتعقيد؛ حتى بدأ اليأس يتسرب إلى نفوسهم.
ظل “صديقهم” صامتا طوال تداولهم الأفكار أياما متوالية ولا يشارك إلا باليسير من الكلمات، وكأنه يعرف النتيجة مسبقا ويتعمد أن يخوضوا هذا الحوار الذي يدرك أنه قد ينتهي بهم إلى مشارف اليأس.
وفي تلك الحالة النفسية المتعبة والتائهة؛ قال لهم: “خلاصة كل هذا النقاش، أننا لا بد أن نقتدي بدرس المعلقات؛ فنختار هدفا مضمون النجاح ويمثل إما نشر إصلاح أو زوال فساد، ليس مهما الحجم، المهم الإنجاز، خطوة مضمونة ظاهرة للناس خير من قفزة تحتوي على مخاطرة الفشل.
طلبوا منه أن يقترح فذكر اقتراحه، فضحكوا جميعا في صخب ودهشة أخرجتهم من هموم النقاش العقيم.
ظنوه يداعبهم ولكن بعدما هدأ صخبهم وجدوه مازال محتفظا بوجه جاد، ينتظر مناقشة ما عرضه عليهم.
فلما زال الصخب عرض عليهم سبب اقتراحه؛ قال:
لو تأملتم ما يحدث في الأفراح المصرية لرصدتم حالة نفسية شديدة الوضوح، العروسان وغالب الحضور باستثناء الكهول، ينطلقوا في نشاط صاخب، عدة ساعات متواصلة من القفز والرقص والجهد البدني مع اهتزاز متواصل للرأس، والذي يذكرنا بحلقات الذكر في الموالد المصرية قديما، كل هذا في ظل موسيقى صاخبة ينغمس الجميع فيها وكأنهم في “زار“.
بل نحن نعلم أن مجرد خبر حفل زفاف يمثل سعادة غامرة للشباب، ومنهم من يتطفل على الحفلات فقط كي يغوص في تلك الحالة الهستيرية.
الشباب يشعر بالوحدة وأنه يتحمل ما فوق الطاقة، وفي تلك الحفلات يقوم في رقصه العنيف بمحاولة نفض كل ما يثقل كاهله من شعور بالوحدة وهموم تحديات الحياة، في نفس الوقت يتمتع الكل بممارسة الغناء الجماعي؛ الغناء والرقص يشعرهم بالأنس والدفء المفقود والنادر، كيف تتصورون الحال؛ لو كل من في الحفل يتغنى بأغنيات مشتركة مختارة؟؛ مثل “فيها حاجة حلوة” أو “يابو ضحكة جنان”؟
كيف لو نجحنا؛ في إدخال تراث خاص بمدينتنا في كل مناسباتنا الترفيهية؟، نتدرج بإضافة مزيد من الأناشيد والأغنيات التي تجمع مشاعر الناس على أهداف نبيلة مشتركة، يتغنى بها المسلمون والمسيحيون في أفراحهم.
فيتبدل المزاج الشعبي ويتطهر من الفوضى والتنافر الغارق فيهما!، يصبح لمدينتنا لونا شعبيا خاصا؛ يشعرهم بوحدة المزاج والعاطفة.
رغم أن هذا الاقتراح كان بالنسبة له من أنجز البدايات وأيسرها، وفي نفس الوقت مضمون نجاحه؛ إلا أنهم كشباب كانوا يريدون إنجازا صارخا، فرفضوه واستهانوا به، وقبلوا منه البدء في تنفيذ؛ الاقتراح الثاني.