الحمار النكرة

الحمار النكرة

صبحي السلماني

اللوحة: الفنان المصري محمود سعيد

كان ذلك أيام زمان.. قبل أن تدخل الجرارات والدرّاسات إلى الخدمة زمن المنجل والمرواح والاعتماد على القدرات الجسدية وما تيسر من حمير في تصريف الأمور المتعلقة بالمعيشة.. بعد أن ينتهي الفلاحون من الحصاد وتنصب البيادر يرتفع سوق الحمير التي تصلح للدرّس وليس كل الحمير لأنّها تدور سخرة على جميع بيادر القرية، ويكون ترتيبها على البيدر كلاً حسب طاقته ابتداءً من (الملواح) الذي يدور على المحيط، وانتهاءً ب(العين) القريب من المركز.

 أحد تلك الحمير كونه فتي وذو قوائم متينة وخضع لفترة لا بأس بها من التدريب لم يجدوا أفضل منه يصلح لهذه المهمة، عند كل نوبة درّس ينتدبونه (ملواحًا) كي يضبط الإيقاع للأربعة حمير او خمسة المربوطة معه بلوح خشبي يتدلى من أعناقها ويمتد من المحيط حتى المركز، وهذا الموقع جعله محط احترام وتقدير من قبل الحمير وجميع أصحاب البيادر. والنوبة التي تبدأ في وقت مبكر من النهار لا تنتهِ إلا حين يختلط الظلام حينها ترفع الحبال من أعناق كل الحمير لتأخذ طريقها إلى المربط، هناك شأنه شأن غيره يدس رأسه بين قائمتيه ويتكوم على الأرض ومن ثم يخلد إلى النوم، كان ذلك في بداية الموسم، عندما كان خالي البال ولم يتسلل العشق إلى قلبه بعد. لكن الذي جرى بعد ذلك أثناء تنقله بين البيادر أعجبتْ به حمارة، هي الأخرى كانت فتية وجميلة وذات قوائم ممتلئة، وألف حمار يتمنى أن يحضى منها بهمسةٍ أو إشارة من طرف ذيلها، وكونها انتدبته من بين جميع الحمير لم يشأ أن يخذلها، رق لها قلبه، ويوم بعد آخر صار حبه لها يكبر وإعجابه بها يزداد، وحتى يفصح لها عن حبه، على طريقة عشاق ذاك الزمان من أبناء جنسه، مرة يضع حافره على حافرها، ومرة يسوطها بذيله ولكن برفق على ردفيها وفخذيها، وإذا ما رانت منها التفاتة صوبه ورأى صورته في عينيها الوسيعتين ارتجفت فرائصه، وتعثر في مشيته، وصار الذي يراه وهو على هذا الحال يكاد يجزم بأنّ المخلوق سوف يسقط من طوله قبل أن ينقل حافره وعلى البيدر صار لا يتزحزح من مكانه إلا حين تكون إلى جانبه، وفي المربط لا يهدأ له بال ولا يكف عن النهيق حتى يكون مربطها إلى الجوار من مربطه، يراقبها عن كثب، ويتصدى للحمير الطائشة إذا ما فكرت أن تراودها عن نفسها، وللدجاج والجعول إذا ما حاولت أن تعبث في روثها . 

 في تلك الليلة، بعد أن حرروا عنقه وجرّوه إلى المربط، لسببٍ ما وربما لأكثر من سبب رغم السهاد والتعب لم يجد الكرى سبيلاً إلى اجفانه، استدار نحوها ومد عنقه إلى اقصى الامام حتى لامس خطمه الأرض أو كاد، لعله بذلك يريد أن يحصي أنفاسها وينعش روحه بموسيقى غطيطها ويحلم بحضيرة تجمعه وأياها في أرض ليس فيها حمير ولا دريس ولا بيادر ولا حتى عطارين، هناك سيتزوجان وينجبان جحوش كثيرة. وبقدر حرصه على معشوقته، بين الحين والآخر يرفع خطمه إلى فوق متأملاً عتمة الليل ونجوم السماء، وراخياً أذنيه لصرير الجنادب ونقيق الضفادع الآتي من السواقي البعيدة، وحين لم يجد ما يبعث إلى الريبة، مرة أخرى اسند خطمه إلى الأرض ليتابع أحلامه.

وعلى ذكر العطارين، عندما كانت أمه مملوكة لأحدهم ممن أخذوا على عاتقهم مسؤولية توفير السلع وبعض الخدمات لسكان البادية حتى صاروا وهم يتنقلون على أرداف الحمير في رحلاتهم المكوكية بين المدينة والبادية، ويقطعون الفيافي والوهاد أشبه بالدكاكين المتحركة التي تمور خلف البدو في حلهم وترحالهم، وبطبيعة الحال لكل عطار زبائنه ومريديه.

حينها لم يزل جحش صغير، وعلى الرغم من صغر سنه حين وجد أن حوافر امه المثقل ظهرها بالبضائع تغوص في الرمل ولا تسترجعها إلا بصعوبة بالغة ويقارنها مع الأبل التي تتحرك بكل خفة ورشاقة، لم يكن بحاجة إلى من يخبره بأن الصحراء لا تصلح إلا للإبل، ولأيمكن أن تكون موطناً للحمير. وإذا ما وجد الأحورة تنفرد عن أمهاتها لتجري خلف بعضها وتلعب وهو الوحيد الغير مسموح له أن يقترب منها، يشعر بالإذلال والحسرة، وحتى لو سُمح له فإنّه لن يقترب، لأن خوفه من تلك المخلوقات الخرافية لم يأتِ من فراغ. 

ذات صُدفة انفرد أحد الأحورة عن القطيع واتجه نحوه، ولئن لا وجود لأحد غيره في الجهة التي يقف فيها اعتبرها فاتحة خير وعربون صداقة للعب والمرح سويةً. لكن الذي جرى بعد ذلك، إنّ الاختلاط الغير مرحب به مع الحمير استفز أمه (الناقة)، رمحت صوبه مسرعةً واطبقت فكيها العظيمتين على وسطه وكادت ان تقطعه إلى نصفين قبل أن تقذف به على الأرض، ومن ثم حَنَتْ على صغيرها وبكل رفق احتضنته بين قائمتيها الأماميتين والتحقت بالقطيع. حينها أدرك أن للإبل قوانينها الصارمة التي اكتسبتها من الطبيعة الصحراوية القاسية والتي لا يمكن أن تحيد عنها في أيّ حالٍ من الأحوال. لذلك وجد، أنّ رسمَ صورةٍ بحافره لجحش مشوه المعالم على الرمل واللعب معه أفضل بكثير من معاقرة تلك المخلوقات المتغطرسة، فصار لا يشعر بالرفاهية والأمان إلا حين يذهب العطار إلى المدينة للتبضع، هناك يلهو مع الصبية، يربطون ذيله بخيط وبالطرف الآخر للخيط يربطون صفيحة معدنية فارغة ويحثونه على الهرولة، وعلى إيقاع الجلبة التي تحدثها الصفيحة المعدنية وهي تتدحرج خلفه على الأرض وهتاف الصبية، يرقص طرباً. الأمر الذي شجعه لأن ينفق الساعات الطوال بعيداً عن امه. ولأنّ العطار من قبل قد ضاق به ذرعا، وجدها فرصة مواتية للتخلص منه. امتطى حمارته وانصرف تاركاً اياه يتسكع بين الدرابين والازقة وهو لم يزل جحشا صغير لم يكتمل فطامه بعد.

 وبصفته جحش سائب، أحد السقّائين المكلفين بنقل الماء من النهر إلى المدينة، حاول أن يستغل قدراته المتواضعة، وحين وجد أن ظهره الغض لا يقوى على حمل قِربة ماء واحدة تم تسريحه ليعود إلى التسكع من جديد. وعلى قدر ما تعرض للضرب والاهانة من أصحاب المحال التجارية والبيوت، مرةً أخرى صار يعتقد بأن المدن لا يمكن أن تكون موطنًا للحمير. 

أثناء تسكعه على أطراف المدينة التقطه أحد المزارعين وأتى به إلى القرية لإعادة توطينه وتأهيله لبعض الأعمال التي تلزمه فيما بعد. 

على وقع خطا آدمية رفع خطمه إلى فوق وافرد أذنيه، وشيءٌ فشي صار يستعيد أفكاره الهائمة فوق رمال الصحراء، او المجزأة بين الازقة والدرابين وصار يحد النظر، ويصوب كلتا أذنيه باتجاه المخلوق الآدمي الذي انسلخ من عتمة الليل واستقر فوق مربط حمارته، ركلها بقدمه بعد ان خلع سرواله، وباشر معها بنفس الحركات التي كان يقوم بها العطار مع أمه ايام زمان، والتي تبدو وئيدة عند خط الشروع وذات إيقاع متسارع عند النهاية!. 

 حينها لم يزل غر صغير لا يدري ماذا يدور حوله، بل ربما اعتبر العملية برمتها ليست أكثر من مكافأة يقدمها المالك لمملوكته المنزهة عن الرذيلة كل مساء، أما الآن وبعد ان أصبح حماراً واختلط ببقية الحمير ورأى وسمع، لم تعد تنطلي عليه أبعاد تلك الممارسات المشينة. 

وعلى الرغم من أن الأمور بالنسبة له أصبحتْ واضحةً لا لبس فيها وغير قابلة للتأويل، لكن ردود الفعل وهو يتلقى الصدمة لم تمنعه من أن يفكر على عجالة ويضع نصب عينيه بعض الفرضيات : كأن يكون هو ذاته نتاج لواحدة من تلك الممارسات المشينة وأن أباه عطارًا وليس حمارًا، لكن الذي يدحض تلك الفرضية ويثبت عدم صحتها عدا عن مخالفتها لنواميس الطبيعة، لو كان العطار أباه لم يتخل عنه، إذ ليس من المعقول أن يتخل الأب عن ابنه بتلك السهولة ، ام انه نتاج نزوة عابرة لحمار سائب مع أمه أثناء وجودها في الساحة المخصصة لبيع البهائم، ولماذا لا يكون أبوه واحدًا من تلك الحمر التي تعج بها القرية كون القرى هي الممول الرئيسي للعطارين بما يحتاجونه من حمير، أم أنه حمار نكره لا أحد يعرف له أبٌ ولا أمٌ، وكل ما في الأمر أن تلك المخلوقة التي بعد كل هذا العهر لا يشرفه ان تكون أمه من باب الشفقة قد تبنته دون رضى سيدها ، لم تثنه تلك التساؤلات التي أتت في غير وقتها من أن ينفذ قراره، بل على العكس ربما زادتْ من حقده والهبتْ حماسه، لكن الذي استفزه اكثر وجعل الدم يغلي في عروقه ، إنّ معشوقته العفيفة والشريفة لم تبدِ ايّ رفض أو ممانعة، ما أن ركلها الرجل في طرف قدمه حتى نهضت وأخذت الوضع الذي يناسبه، وهذا دليل فاضح على أنها لم تكن المرة الأولى… من يدري ربما كان يتردد عليها كل ليلةٍ اثناء نومه. 

لحظتئذ لم يخطر بباله بأن الشرف عند الحمير رغم أنتسابه لتلك المنظومة ذو مفهوم نسبي، بالنسبة له الشرف يبقى شرفًا لا ينثلم ولا ينقسم إلى شقين، شق مسموح به وشق غير مسموح، ولا يمكن التغاضي عنه حتى وإن كان الجاني والمجني عليه من جنسين مختلفين.

 ولكي يطفئ جذوة الغضب التي اعتملت في داخله، نهض من مضجعه وهو يرفس الأرض بقوائمه وينفر، تخلص من الحبل الذي يقيد حركته وأزاح الرجل الذي يعيش اللحظة، تاركًا إياه يتلوى على الأرض ويصيح من شدة الألم بعد أن ترك بصمة أسنانه العريضة على مؤخرته العارية، وبقوائمه الخلفية بلا شفقة صار يرفس حمارته الخائنة.

 عمّت الفوضى داخل المربط. وصارت الحمير تدور حول بعضها وتنهق، والتفتْ الحبال المثبتة في الاوتاد الغائرة أنصافها في الأرض حول أعناقها، حتى ان البعض منها كاد ان ينفق. 

ليس غريبًا أن تعم الفوضى في مربط الحمير، لأن الحمير بطبيعتها تعشق الفوضى لكن ليس في مثل هذا التوقيت، الأمر الذي استفز الكلاب المسترخية فصارت تنبح والنباح قابله نباح ولأن نباح الكلاب بهذه الطريقة وفي مثل هذا الوقت المتأخر من الليل ينذر بالخطر استيقظ البعض، والبعض صار ينادي على البعض، الكل يريد أن يعرف ماذا ألم بالحمير التي لا تكاد تكف عن النهيق.

 وحين ذهبوا إلى المربط وعرفوا بأن (الملواح) قد عض أحد الرجال من مؤخرته، قبل أن يدخلوا في تفاصيل وحيثيات القضية، عمدوا على تهدئة الحمير وتحريرها من الحبال التي التفتْ حول أعناقها، لكن العاشق الذي أوسع معشوقته رفسًا والذي لم تنته فورة غضبه بعد، ربما بسبب حقده المتجذر على البني آدميين لا يريد أن يهدأ، وأصبح عدائيًا إلى الدرجة التي جعلته يهاجم كل من يحاول أن يقترب منه أو يتصدى له. 

ولاعتقادهم بأن المخلوق بهذا التصرف قد أصيب بداء على غرار الداء الذي يصيب الكلاب المسعورة، حفاظاً على مؤخرات الرجال قرروا قتله، ولم يتوانوا في تنفيذ قرارهم… هذا بالنسبة للرجال.

 وأما عن النسوة اللواتي لا يرضين بأنصاف الحلول، ولديهن حس أمني يتفوقن فيه على الرجال.. صارت الواحدة تضع يدها على فمها خجلاً وتهمس في أذن جارتها:

حافظي على مؤخرة زوجك، إياك أن تدعيه يذهب إلى مربط الحمير في ساعة متأخرة من الليل…امنعيه… اعقري ساقه،

وإذا ما سألت الأخيرة عن السبب الذي يدفع زوجها لأن يذهب إلى المربط في مثل هذا الوقت، وبكل تأكيد سوف يدفعها فضولها لأن تسأل! 

سوف يأتيها الرد، لكن ليس قبل أن تمد الجارة لسانها على طوله من خلال شفتيها المتكورتين ثم تعيده، أو تفرد أصبع يدها وعلى إيقاع ال هوي… هوي… تلك المفردة التي تنطوي على كثير من السخف والسفاهة، تهز ذراعها المبسوطة: يذهب إلى هناك كي يسأل الحمير عن البغل من يكون خاله! 

في صباح اليوم التالي كانت الصورة أكثر وضوحًا حين عثروا على سروال الرجل في المربط…. حينها فقط فهموا الحكاية التي لا تحتاج إلى مزيدًا من الفهم، لكن الذي لم يفهموه، وكيف لهم أن يفهموا أن للحمير مشاعرًا وهامشَ كرامةٍ وشرف.

وبعيدًا عن لغة العواطف والأحاسيس وبعيدًا عن مؤخرة الرجل كان همهم وربما كل همهم أن ينتهوا من درس بيادرهم… لكن متى وكيف…؟ 

لا أحد يعلم، أصحاب الحمير كلاً استرجع حماره أو حمارته والحمارة الفتية التي تعرضت للاعتداء، غسلاً للعار تم بيعها من قبل صاحبها إلى عطار لا يعجبه اقتناء الذكور من الحمير، وإلا ما معنى أن يحرم أم من ابنها وهو لم يزل جحش صغير لم يكتمل فطامه بعد، وترّكه يتسكع بين أزقة ودرابين المدينة، ومن ثم تنازل عن أمه التي نحل عودها وانحنى ظهرها أسفًا على صغيرها.

وإلى أن يجد أصحاب البيادر حمارًا آخر يصلح لأن يكون (ملواح) ولديه القدرة على ضبط إيقاع الحمير يكون موسم الدرّس قد انتهى وحل موسم الأمطار. 

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s