عبد الرحمن بدوي.. فيلسوف العرب الأوحد في العصر الحديث

عبد الرحمن بدوي.. فيلسوف العرب الأوحد في العصر الحديث

صلاح حسن رشيد

اللوحة: عبد الرحمن بدوي بريشة الفنان العراقي على المندلاوي

بمناسبة مرور عشرين عامًا على وفاته، ومائة وخمسة أعوام على ميلاده

ما أصدق المتنبي عندما قال: 

وإذا كانت النفوسُ كِباراً

تعبتْ في مرادها الأجسامُ!

وكما قلتُ عنه شِعرًا: 

فما “البدويُّ” سوى نجمِ السماءِ 

رنا بعقله؛ فحلَّقَ عاليًا فوق السحابِ.

ألا فلنعلم تمامًا؛ أنه إذا كثر مادحو شخصٍ ما، وشانئوه، وكانوا جميعًا من العقلاء؛ فلنوقن أنه شخصٌ عظيم! ومن ذا أجمع عليه الناس في كل الأزمان؟! ومن ذا تصفو مشاربه؟ كما قال بشار بن برد. إذاً؛ فهذا رجلٌ كان عقله وروحه وإمكاناته وقدراته وملكاته ومواهبه وعبقريته، أكبر من ظروفه وحياته، وما طمح لتحقيقه على أرض الواقع من أفكار ومشروعات؛ فكيف إذاً لجسٍد ضعيفٍ مثله يطلب الفناء والراحة، أن يتحمَّل طموحًا ونبوغًا؛ ذكَّرنا بأرسطو، وأفلاطون، والفارابي، وابن سينا، والغزالي، وابن رشد مجتمعين؛ فلا جرم أنَّ هذا لإحدى الكُبَر!

وإذا كان؛ للنبوغ سلطانه، وللعبقرية ضريبتها شهرة ودويًّا؛ فإن صاحبنا هذا ضرب بسهم الخلود بأوفى غاية، ونقش اسمه في أعلى عليين، فكثر من ثم حاسدوه، بعدما أتى بالغرائب والعجائب والفرائد في عالم الفلسفة والتفلسف؛ فلم يزده إلا دأبًا وعجبًا.

ولنا أن نتساءل بالمنطق، وفي ضوء ما أنجز: ترى هل صدق المستشرق كراوس في حدسه بعبقريته؛ بعدما صاح طه حسين على الملأ معلنًا: “لأول مرة نشاهد فيلسوفًا مصريًّا” بعد أن ظفر صاحبنا بأطروحته للدكتوراه في عام 1944م بجامعة فؤاد الأول (القاهرة الآن)؛ فهمس في أذنه قائلًا له: “لقد ذبحك طه حسين بثنائه عليك”!

إذاً؛ فالمحصلة أن الآراء كلها أجمعت على عبقريته، وما كان يُنتَظر من مثله، لكنَّ منها مَن رماه بالتقصي، والتعالي والغرور، وغلبة التاريخانية على الابتكار، وضياع المشروع في النهاية؛ فهل نُصدِّق إذاً، تلميذه أنور عبد الملك القائل: “كيف يكون المدخل إلى رجل لا يقبل التصنيف؟”. وهل نذهب مع حسن حنفي القائل عن أستاذه بدوي: أراد أن يكون في العالم طبقًا لمقولة الوجوديين: “الوجود في العالم”، وانتهى إلى مقولة الصوفية: “العالم في الوجود”؟! وهل نرى رأي أحمد محمود صبحي عنه: “ما قام به في نطاق الإسلاميات، وبخاصة تحقيقاته على مخطوطات؛ فإنه ينوء به فريق كامل من المشتغلين بها؛ ولا يقدر على ذلك غير عبد الرحمن بدوي”؟! وهل نرتاح لكلام تلميذه/ محمود أمين العالم: “فيلسوف عظيم؛ تحلّى بالذاتية والوجودية؛ وتخلّى عن المجتمع بإرادته”؟!

 وهل كانت نصائح المستشرق كورييه المشرف الثاني عليه؛ بعد أن رأى مؤلفاته تترى؛ وهو ما يزال شابًا؛ فحذره من أساتذته الناقمين: “ألا فلتعلم أن كل كتاب تصدره؛ هو بمثابة خنجر في قلوب الحاسدين والحاقدين” موضع الدهش والهجوم؟! وهل نصدق ما قاله عنه علي زيعور تحت عنوان (المذهب الإنسانوي العربي في فكرنا التأسيسي وفي القطاع الفلسفي الراهن): “نحن إن رفضنا فكريات بدوي؛ المعادية للعلم والعقلانية؛ فلكي نستدل على الطريق. لم تكن فلسفته الطريق، لكنها كانت ضرورية للإرشاد إلى ما تكون الطريق، وإلى ما يجب أن نكون ونرى ونفعل. نظرته علّمتنا، أرشدتنا إلى نقائضها؛ فمعظم نقائض ما قالته الوجودانية العربية؛ هو المتبقي، والمُنعِش، وسقطاتها نوّرتنا”! وهل نوافق علي حرب في آرائه بحق بدوي ومؤلفاته في التحقيق والتاريخ للفلسفة؛ بأنها: “خلت من الابتكار، والجديد، ومن التحليل والمعالجة النقدية؟! وهل ما توصل إليه أحمد بكر موسى عن مشروع بدوي صحيح على إطلاقه: “لم يكن مشروعًا فكريًا واحدًا، ولم يسلك طريقًا مستقيمًا، وإنما اعترته انعطافات حادة ليس منها الدافع المالي وإلا لما أتت هذه الكتب بهذا الإتقان الذي شهد له الجميع، وأرى أن الدافع أقوى من المال”. وهل تفسير تلميذه فؤاد زكريا لاتجاهاته الإسلامية عن القرآن والنبي محمد صلى الله عليه وسلم في أخريات حياته،؛ إنما كانت بدافع المال وحب المال” .. كان غير منطقي؟! وإلا فلماذا؛ لم يفز بدوي بأية جائزة مصرية أو عربية؛ ولم يحز أي تكريم في حياته؟!

وهل اهتدى بدوي أخيرًا إلى ما أشبع نهمه المعرفي والفلسفي؛ فاتجه بكليته، كما يقول بكر موسى حيث اكتشف: “طرف المواطنة الثالث، لقد اتسم بدوي طوال حياته بالقلق الروحي وبحثه الدائم عن الاستقرار النفسي، وقد اهتدى أخيرًا إلى الدين وإلى الله، أقول اهتدى إلى الدين وركن إليه“؟

فإذا أردنا تفسير كل هذا اللغط والصخب؛ الذي صاحب وما زال عبد الرحمن بدوي؛ في مؤلفاته، وبحوثه، في آرائه؛ وما أحدثته سيرته الذاتية من خروج على الأعراف، والتقاليد؛ حيث هاجم جميع رجال عصره في كافة المجالات؛ باستثناء: أستاذه/ مصطفى عبد الرازق، وبعض المستشرقين! فلا شك؛ أنه رأى الهزائم العربية المتوالية، والارتدادات المعرفية، والتخلف الحاد يسيطر، وينتشر من حولنا؛ ورأى أنَّ ما بشّر به يتهاوى أمام عينيه، وأن ما نظّر له تُصادِمه الحياة والناس؛ فلا نحن حقّقنا النهضة؛ ولا نحن فهمنا ديننا إلا صوريًّا شكلانيًّا! إزاء كل هذا وذاك؛ تقوقع بدوي على نفسه، وتشرنق على ذاته، وسابَق الزمن؛ لإكمال مشروعه بشتى السبل؛ فكان يؤلِّف وهو مُسافِر؛ ويسافر وهو يؤلِّف؛ ويقبع في مكتبات أوربا الأيام والشهور، وهو الذي يدشِّن بمفرده، ما عجزت الجامعات والجماعات عن إنجازه قاطبة!

ففيمَ الحيرة إذاً في أمره وفكره وفلسفته؟! ولماذا كل هذا العقوق الظالم لهذا الفيلسوف؛ الذي تخلَّى عن الصاحبة والولد؛ من أجل أن يُخرِج للعرب والمسلمين؛ ما يشمخون به من نتاجٍ يُضارِع به فلاسفة الغرب؟!  

لذلك؛ عرف بدوي قيمة نفسه،؛ وما تحمله من نفيس الفكر، وعريق التفلسف؛ فجاهد به الجهل، والتخلف، والتقليد، والجمود، والهزيمة، ووقف يُتحف العرب والغرب بنتاجه الثر الرائق؛ وجوديًّا، ويونانيًّا؛ وأفلوطينيًّا، وهيلينيًّا، ومشّائيًّا، وصوفيًّا، وكلاميًّا، ويهوديًّا، وكنسيًّا، وإسلاميًّا، وإلحاديًّا، وإشراقيًّا، واستشراقيًّا، وصوريًّا، وتراجيديًّا، ومسرحيًّا، وشِعريًّا ومقارنيًّا، وتحليليًّا، ونقديًّا!

فرحمة الله على عبد الرحمن بدوي (1917-2002م) بمناسبة مرور عشرين عامًا على وفاته، ومائة وخمسة أعوام على ميلاده؛ فمتى تتذكره وزارة الثقافة المصرية، وجامعة القاهرة، وجامعة عين شمس، واليونسكو، ومعهد المخطوطات العربية؛ بأي تكريم، وهو الفيلسوف المصري والعربي الوحيد في العصر الحديث!


عبد الرحمن بدوي

د. عبد الرحمن بدوي (4 فبراير 1917 – 25 يوليو 2002م)، أحد أبرز أساتذة الفلسفة العرب في القرن العشرين وأغزرهم إنتاجا، إذ شملت أعماله أكثر من 150 كتابا تتوزع ما بين تحقيق وترجمة وتأليف، ويعتبر من أبرز المثقفين الذين تركوا بصمتهم على مسار الفكر العربي خلال القرن العشرين.

صلاح حسن رشيد باحث وأديب مصري

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s