عن انطونيو غالا

عن انطونيو غالا

د. جمال عبد الرحمن

اللوحة: لوحة ذكريات غرناطة للرسّام الإسباني أنطونيو مونوز ديجرين

ليس من اللائق أن ننتظر حتى وفاة شخص لكي نتحدث عنه، خاصة عند انتفاء المصلحة. حديثي اليوم عن أنطونيو غالا، وهو غني عن التعريف، لكن لا بأس من إشارة موجزة مراعاة لقارئ عابر. غالا أديب كتب الشعر والرواية والمسرح والمقال، وهو شديد الارتباط بالثقافة العربية الإسلامية، خاصة الأندلسية.  هو من قرطبة وأندلوثي حتى النخاع.  مدافع شرس عن وطنه الأندلوثي وماضيه الأندلسي. عرفته في إسبانيا حين قرأت له بعض أعماله، وكنت أتابع مقالاته الأسبوعية، التي كانت تدور في معظمها حول الثقافة العربية الإسلامية. وكان يطل علينا بين الحين والآخر عبر قنوات التلفزيون الإسباني. معرفة بدأت في مدريد، ولم تنته حتى اليوم.

بعد حصولي على الدكتوراه عدت إلى أرض الوطن، وبعدها بشهور زارني صديق إسباني وهو يحمل لي نسخة من “المخطوطات الحمراء” أو المخطوط القرمزي. “أعرف عنك عشقك لأعمال غالا، وهذه نسخة لم تصل بعد إلى الأسواق. هي هدية خاصة”. عكفت على قراءة الرواية التي كلفت غالا سنوات وسنوات من البحث في المصادر الإسبانية. أدركت حينها أن اتجاها جديداً قد بدأ في الأدب الإسباني، فيما يتعلق بصورة المسلم. صحيح أن بعض الروائيين الاسبان قد سبقوه في هذا الجانب، لكن ذلك البعض لم يكن من كتاب الصف الأول الذين يلفتون الأنظار، أما غالا فهو ملء السمع والبصر، يكفي أن ينشر مقالا صغيرا حتى تصل الرسالة إلى عدد هائل من القراء.  كانت رواية خيسوس غريوس عن زرياب قد وصلتني، وكانت تسير في الاتجاه نفسه. علي أساس الروايتين نشرت دراستي الأولى عن صورة المسلم في الأدب الإسباني.

حين قررت الكلية تنظيم مؤتمر عن العلاقة بين الثقافة العربية الإسلامية والدول الناطقة بالإسبانية رأينا أن نوجه الدعوة إلى كل المهتمين بالأندلس تاريخا وثقافة: الطاهر مكي، محمود علي مكي، عبد اللطيف عبد الحليم، محمد عبد الحميد عيسى، صلاح فضل (رحمهم الله جميعا)، وغيرهم كثير. كنت المسؤول عن التنسيق مع سفارة إسبانيا. 

في تلك السنوات كانت إسبانيا تخصص ميزانية كبيرة للأنشطة الثقافية. قالوا لي إنهم مستعدون لتحمل نفقات حضور مشاركين اثنين أختارهما. كان اختياري الأول انطونيو غالا، وهنا ارتبك الزميل الإسباني. “ليس من السهل تلبية طلبك. حضور غالا سيكلفنا كثيرا، أكثر مما تتصور. أرجو ألا تصمم على اختياره”. لكنني صممت، ودافعت عن رأيي فتعاطفوا معي. اتصلوا به في حضوري، فقال لهم إنه يرحب بدعوة جامعة الأزهر، وإن كانت له شروط. استجابت السفارة لشروطه ووصل إلى القاهرة. 

في اليوم التالي كنا على موعد معه في جامعة الأزهر، في الخامسة مساء كنا في استقباله في الكلية، وكانت كاميرات التليفزيون جاهزة. وصل في الموعد المحدد بالضبط. كان حادا، ورفض أي لقاء مع التليفزيون. على الفور اعتلي المنصة، وخيم الصمت على المدرج. بصوته الساحر الهادئ بدأ مداخلته. قال إنه ارتبط بالثقافة العربية الإسلامية منذ طفولته في قرطبة، وإن هذا الارتباط لم يفارقه حتى اليوم. سرد قصة الأندلس من البداية إلى النهاية، وأشار إلى روح التسامح التي ميزت الحضارة الأندلسية. 

قال إن التأريخ الإسباني مزيف في معظمه، فلم يكن هنالك استرداد، لأن هنالك مدنا إسبانية لم تكن موجودة قبل وصول المسلمين، وإن الحروب التي سنها ملوك قشتالة كانت لأطماع شخصية.  قال إن غرناطة كانت تمثل قمة التسامح، وإن غزو الملكين الكاثوليكيين لها كان خطأ فادحا. استمرت المحاضرة لأكثر من ساعة استمتعنا فيها بذلك العرض الرائع. أفقنا على جملة “شكرا جزيلا” التي انتهت بها المحاضرة. بعدها رأيناه شخصا آخر غير الذي دخل علينا، فقد كان مجاملا مهذبا. 

في اليوم التالي عاد إلى إسبانيا ليواصل نشر مقالات تحاول تشكيل الوعي الذي غيبته كتابات المنتصرين.


أنطونيو غالا روائي وشاعر وكاتب مسرحي إسباني. ولد عام 1930، تخرج من جامعة إشبيلية حاملا ثلاث إجازات جامعية في كل من القانون، الفلسفة وفي العلوم السياسية والاقتصاد، كتب في عدة أنواع أدبية من بينها الشعر، الرواية، المسرح، القصة القصيرة والمقالات. نال عدة جوائز، في الشعر، وفي المسرح والاوبرا.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s