اللوحة: الفنان الإيراني علي رضا باكدل
حين مللت الوقوف بعدما طال انتظاري، قرعت الباب بشدة، حتى برز إليّ أحدهم، يتطاير الشرر من عينيه، لم يمهلني أن أبيّن له سبب دقي الشديد هكذا، لكزني كثيرًا ثم زاد في اللكز حتى لم أعد أحصي ما نالني منه، أخرجني من كربي ظهور شخص آخر يرتدي معطفًا أبيض، حول رقبته سماعة طبية، سألني بجفاء: لمّ أتيت؟ ما هذا الإزعاج الذي تُحدثه؟
اعتذرت إليه، قلت: عفوًا لقد خرجت من بيتي صباح اليوم، أحمل حقيبة صغيرة على ظهري “وأشرت إليها بيدي”، فتجاهل إشارتي، هزّ رأسه أن أكمل، فقلت: جئت كي أنزل عندكم، فأنا وعن قناعة مختلّ العقل، لم أعد أميز بين الخبيث والطيب، بل لم أعد أرى ثمة أهمية بينهما، لذلك أتيت إليكم راجًيا أن تقبلوني نزيلًا مضطربًا أو مريضًا جرى عليه القلم.
تطلّع الطبيب في وجهي كأنما يستوثق من صدق حديثي، تفحصني من أعلى لأسفل، ثم قال: لا نقبل هنا إلاّ من لا يعلم بجنونه، الشروط لا تنطبق عليك، ثم أومأ للحارس الغليظ القلب، فدفعني بشدة في صدري، فتدحرجت على الرصيف مسافة، صك الباب بوجهي.
لكني لم أيأس، اعتصمت ساعة بجدار المستشفى، تلتها أخريات، ثم مرّ يوم وخلفه انقضت أسابيع وأشهر حين اكتمل العام، بدت فرجة في الباب، تسلل عبرها ضوء النهار، ثم فًتح بصرير يصم الأذن، رأيت الطبيب بسَمْتِه، بوسامته الشديدة، نقاء ملابسه، قال ويديه في جيوبه: قلت لك من قبل، لا نقبل هنا غير من يجهل مرضه، نرحب بمن يؤمن بعقله فقط دون الجميع، ثم صاح بي: أنت خطر على هؤلاء الودعاء الطيبين، دعم وشأنهم، ثم بضجر وتأفف أنهى كلامه: رجاء انصرف.
فاحتميت بالجدار سنوات أخرى كثيرة، تضاءل خلالها الأمل، لكنّي بأعماقي ما زالت نفسي تهفو للدخول، مؤانسة من يدركون حجم آفتي، فكنت أناديهم وهم يتدثرون خلف شرفات حجراتهم، يتهامسون بوجل فيما بينهم، خطر ببالي أنهم يخافون الاقتراب منّي أو ربما يحذّرون إدارة المستشفى من وجودي بينهم. أقسمت لهم غير مرة أنني مجنون طبيعي مثلهم، لكنهم ردّوا عليّ بأنني ممثل قدير يجيد التصنّع، أن حيلتي لن تنطلي عليهم.
ها قد انقضت خمسون سنة وأنا قائم على الرصيف، فشلت في إثبات جنوني، قبيل أن يتملكني اليأس الكامل، انفرج الباب من جديد عن وجه ملائكي شديد البياض، يشع النور من ثناياه، هو نفس الطبيب، لكن اختلفت ملامحه عن ذي قبل، لوّح لي مرحبًّا، أشار أن اقترب، ففعلت، حينها همس بودّ: شفع لك أن حقيبتك ظلت على ظهرك دهرًا كبيرًا، أن نفسك لم توسوس لك أن تفتحها.
فقلت بفرح غامر: فهل أدخل الآن؟
فقال برقة: لم يحن الوقت بعد، ما زال جنونك غير مطبق، بنفسك بعض خيلاء لا يليق. ثم لوّح من جديد وهو يختفي تدريجيًا بالداخل.