الشتاء في لوحة.. هندريك أفركامب موثق العصر الجليدي الصغير 

الشتاء في لوحة.. هندريك أفركامب موثق العصر الجليدي الصغير 

حنان عبد القادر

اللوحة: «مشهد على الجليد» لأفركامب

لا يمكن الحديث عن الشتاء وحضوره في لوحات الرسامين الكبار من دون التوقف عند الرسام الهولندي هندريك أفركامب الذي ينظر إليه على أنه أول من تخصص في رسم أجواء الشتاء، خصوصاً إنه من جيل الفنانين الذين عاصروا ما صار يعرف بـ «العصر الجليدي الصغير»، والذي بدأ في القرن الخامس عشر، حيث انخفضت درجات الحرارة في النصف الشمالي من الكرة الأرضية وتحديدا في أوروبا، فكان فصل الشتاء فيها بارداً جداً تتجمد فيه الأنهار والبحيرات والخلجان البحرية، ويعتبر كثير من الباحثين أن التأثير الاجتماعي والاقتصادي لهذا العصر كان كبيراً جدا، ويذهب بعضهم إلى أن هذه التغيرات كانت من العوامل الأساسية التي ساهمت في التحولات العميقة في المجتمعات الأوربية وخصوصاً بلدان الشمال الأوروبي.

بدأ تركيز الرسامين على الطبيعة مع بيتر بروغل الأكبر الذي كان أول من رسم المناظر الطبيعية الشتوية كموضوع مستقل ومكتفٍ بذاته، يعالج فيه التفاعلات العميقة بين الإنسان والطبيعة، وتأثير تقلبات الأخيرة على حياة الناس، ويولي اهتماما كبيرا للتفاصيل، كما ذكرنا في مقالتنا السابقة «الثلج والقلق الوجودي عند بيتر بروغل».. وتحت تأثير بروغل بدأ الفنانون الهولنديون في رسم الشتاء، إلا أن أفركامب (1585 – 1634) كان أول رسام تخصص في رسم الشتاء، وفي تصوير حياة الناس وتكيفهم مع هذا الشتاء القارس، واهتم برسم الأشخاص بعناية، وبسرد التفاصيل التي ارتبطت بالثلوج والجليد وتجمد الممرات المائية، والظواهر الاجتماعية التي برزت خلال هذه الفترة، فاهتم بالرياضة وجوانب الترفيه التي اتجه إليها الناس، وطريقة إدارتهم لأعمالهم، بما فيها التنقلات فوق الأنهار والبحيرات المتجمدة، ورياضة الغولف التي برزت في ذلك الوقت، وأولى عناية خاصة بتنوع الطبقات الاجتماعية وتنوع الملابس التي سجلها بعناية، حتى أصبحت لوحاته وثائق تاريخية في هذه الناحية، وتحولت فيما بعد إلى مصادر غنية لمؤرخي الأزياء وأنماط الملابس في القرن السابع عشر.

كان أفركامب أصمَ وأبكمَ، وعرف في ذلك الوقت بـ «أبكم كامبن» نسبة إلى المدينة التي عاش فيها، ولعل حالة الصمم كانت مسؤولة إلى حد ما عن براعته في التقاط التفاصيل البصرية، فكما هو معروف، يطور الصم حاسة النظر مثلما يطور الأكفاء حاسة السمع، ولهذا حفلت لوحاته بكثير من العناصر، واستطاع التقاط أدق التفاصيل حتى غدت أعماله مرجعاً تاريخياً لأسلوب حياة الناس في ذلك العصر كما ذكرنا. 

مشهد على الجليد بالقرب من مصنع الجعة

تصور اللوحة مشهدا يومياً لنشاط الناس في مدينة تحولت كل مساحاتها إلى جليد، ومن الواضح أن هنالك نهر متجمد يمتد من مقدمة اللوحة إلى عمقها، تدل عليه المراكب العالقة في الجليد والتي تحولت إلى مساطب خشبية يجلس عليها البعض، فيما تحول النهر إلى طريق جليدي يسير فوقه الناس، ومع ذلك تكشف الملاحظة الدقيقة عن تنوع كبير في طبيعة الأشخاص وانتماءاتهم الاجتماعية..

 فهنالك الفلاحون والأرستقراطيون والتجار والبرجوازيون، النساء والرجال، الصغار والكبار. تصور اللوحة مختلف الطبقات والفئات الاجتماعية، ليس فقط من خلال التركيز على الأزياء التي تعكس التنوع الاجتماعي بل من خلال طبيعة النشاط والحركة، فالبعض يحمل السلال متوجهاً لصيد ما يمكن العثور عليه من أسماك في حفر يتم حفرها في النهر المتجمد، وآخرون يحاولون نقل بعض الأغراض في العربات التي تجرها الخيول والتي تحولت لزلاجات، وهنالك رجال خرجوا للمرح والتزلج، ومجموعة منهم وقفوا يتبادلون أطراف الحديث. 

وتبدو اللوحة وكآنها تمتد في العمق إلى ما لانهاية، وتضم عددا كبيرا من الأشخاص والعناصر. السماء مرسومة بالألوان الرمادية والزرقاء التي تعكس الطقس البارد، مع مساحة كبيرة بدرجات اللون الوردي لضوء الشمس المختفية خلف الغيوم، فيما رسمت الأرض بالرمادي والوردي، ويلاحظ عناية الرسام بالظلال فوق الجليد.  

تعكس اللوحة اهتماماً شديداً بسرد أدق التفاصيل، ففي كل جزء منها ثمة حكاية مختلفة وجانب من حياة الناس وسلوكهم وأنشطتهم، فلوحات أفركامب تقدم مشهداً توثيقياً غنيا بالتفاصيل لحياة الناس في القرى والمدن الهولندية إبان تلك الفترة، حتى أصبحت لوحاته كما ذكرنا مرجعاً لكثير من دارسي المجتمع الهولندي في القرن السابع عشر. 

ففي هذا الجزء الصغير من اللوحة نلاحظ امرأة وزوجها سقطا على الجليد، يجلس الرجل بجانب زوجته المستلقية على وجهها وقد انحسرت تنورتها وطبقات ثيابها لتكشفت عن ساقيها، فيما يشير رجلان إليها وأحدهما يسرع لنجدتها، وبالقرب منهما كلب يهرول مسرعا فوق الجليد، وامرأة انحنت فوق زلاجة مخصصة للأطفال لتضبط البطانية على طفلها.

التزلج على الجليد بالقرب من إحدى القرى

في هذه اللوحة نحن أمام مشهد حي، السماء مكفهرة والأرض يغطيها الجليد، لكن نشاط الناس أعطى للوحة هذه الحرارة التي نشعر بها، ومن يتأمل الأوضاع التي يتخذها الأشخاص يدرك الحركة التي تعج بها اللوحة، وكذلك الطيور المحلقة في السماء والواقفة على أغصان الشجر العارية. ورغم برودة الطقس والجليد الذي غطى كل شيء إلا أن الألوان دافئة بين الرمادي والبني والوردي.. 

ما يلفت في هذه اللوحة هو العناية بتصوير ملابس الأشخاص، وتصوير الأعمال المختلفة التي يؤدونها، فبعضهم خرج للمرح والتزلج ولعب الغولف، وهؤلاء يتضح من لباسهم وأزيائهم أنهم من الأغنياء، بينما خرج آخرون لإنجاز أعمال روتينية، وهؤلاء من الفقراء كما تدل ملابسهم، أحدهم يحاول أن يوازن حزمة القصب على ظهره وهو يسير على الجليد، رجل يحمل سلة ويسير متثاقلاً على أمل اصطياد بعض الأسماك من حفر يتم عملها بكسر الجليد فوق النهر.. ثمة امرأة تغسل ثوباً أحمر اللون في حفرة في الجليد، وأخرى سقطت على وجهها في منتصف اللوحة.

لاعبي الغولف على الجليد

لوحة «لاعبي الغولف على الجليد» لا تضم عناصر كثيرة وتكاد تكون من أكثر لوحات أفركامب من حيث قلة عناصرها مقارنة بلوحاته الأخرى التي صور فيها أنشطة الناس المختلفة، واللوحة مخصصة للمرح واللعب.. رسم الجليد باللون الأبيض مع ضربات رمادية واهتم برسم الظلال على الجليد، بينما رسم السماء بألوان دافئة مشرقة سيطر عليها الأصفر والذهبي والوردي..

كانت الغولف لعبة الرجل الأرستقراطي كما يتضح من اللاعبين في مقدمة اللوحة بملابسهم الأنيقة، بينما هنالك شخصان بملابس بسيطة – رجل وفتى – أحدهما يحمل فأساً لكسر الجليد والآخر يحمل شبكة لصيد السمك وقد توقفا ليشاهدا لعبة الرجال الأغنياء. 

لقد صور أفركامب تجاوراً مذهلاً بين أولئك المحظوظين الذين منحهم الجليد وقت فراغ فراحوا يقضونه مستمتعين بلعبة الغولف، وبين أولئك الذين أصبحت معيشتهم أكثر صعوبة ومشقة بسبب الجليد. 

المناظر الطبيعية الجليدية

تصور هذه اللوحة يوما شتائيا باردا، ومع استخدامه للألوان الوردية في السماء التي تدل على ضوء الشمس المتوارية خلف السحب، إلا أن الألوان الباردة الداكنة: الزرقاء والرمادية في السماء والأخضر المزرق للجليد في الأرض مع ضبابية الأفق تشعرنا ببرد الشتاء، ومع ذلك منظر الناس بأحاديثهم المبهجة وهم يلتقون في ساحة البلدة وكأنهم في احتفال، ويلهون على الجليد، يشعرنا بنوع من البهجة والدفء. 

ثمة تنافر كبير بين الطبيعة الباردة المتجمدة (السماء المكفهرة، الجليد، الشجر العاري المتيبس). وبين الأحاسيس والمشاعر التي يعبر عنها الأشخاص في اللوحة، بوضعياتهم وحركتهم، البعض يلعب الغولف، آخرون وقفوا يتحدثون، رجال ونساد كما لو كانوا في نزهة فوق النهر المتجمد، ولا يفوت أفركامب التصوير الدقيق للانتماءات الطبقية للسكان، البعض بملابس أنيقة مميزة، آخرون بملابس بسيطة، الموسرون خرجوا للمرح وللتنزه، فقراء خرجوا لأعمالهم الاعتيادية، رجلان تدل ملابسهما على منزلتهما الاجتماعية يلعبان الغولف، وآخر يحمل شبكة صيد السمك في رحلة البحث عن الطعام، وثمة رجل بثياب الفقراء توقف يتفرج على اللعبة.. نساء وصبية بملابس أنيقة مميزة. رجل وامرأة يقفان فوق زورق تحول إلى منصة خشبية أمام البيت بعد أن تجمد النهر، وأمام المنزل حفر أحدهم حفرة واسعة في الجليد لطيور البط.

يمكن للملاحظ أن يستعرض الأشخاص في اللوحة فرداً فرداً ليكتشف أن كل شخص فيها رسمه أفركامب وكأنه لوحة مستقلة، وكل شخص عبارة عن حكاية صغيرة في سردية كبيرة تقدمها اللوحة. من الصعب أن تجد ما يوثق الأجواء والطقس والناس ولباسهم وحياتهم الاجتماعية في القرن السابع عشر كلوحات هندريك أفركامب.

يعتبر كثير من النقاد ومؤرخو الفن التشكيلي أن رسم المناظر الطبيعية الشتوية الذي ظهر في القرن السابع عشر وما بعده، وخصوصاً لدى الفنانين الهولنديين خلال ما عرف بالعصر الذهبي الهولندي، يعود إلى هندريك افركامب الذي كان أول من رسم المناظر الطبيعية الشتوية كنوع مميز مستقل بذاته، وعلى منواله سار الفنانون الهولنديون بعده متوجهين أكثر فأكثر نحو الطبيعة، ومع ذلك لم ينجح أي منهم في التعبير عن تحولات الواقع الذي خلقة العصر الجليدي الصغير كما فعل هو، ومازالت لوحاته المرجع الأساسي لدراسة الواقع والتحولات العميقة التي أحدثها هذا العصر في هولندا وفي أوروبا الشمالية.


الشتاء في لوحة.. الثلج والقلق الوجودي عند بيتر بروغل

الشتاء في لوحة.. قسوة الثلوج وجمالها عند الانطباعيين

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s