أيمن جبر
اللوحة: الفنان العراقي حسين الساعدي
يواصل الكاتب أيمن جبر قصته المطولة بعنوان «ببساطة» ويمكن قراءة الفصول الأولى من خلال الرابط أسفل النص.
تعتبر الدكتورة “أمينة” من الشخصيات العامة في المدينة، شخصية مثقفة وتربوية، تُدَّرس علوم الاجتماع بجامعة القاهرة، ويقصدها في الجامعة وفي المدينة كثير من البنات للاستعانة بها في حل مشاكلهن الخاصة، فكانت تبذل جهدها في النصح أو التوسط لحل تلك المشاكل.
أدركت الدكتورة من واقع اختلاطها بالطلاب في الجامعة والشباب في المدينة أن الشباب حائر ومرتبك في حياته، ويتحمل كلا من الحيرة والارتباك على أمل أن يتمتعوا في النهاية بالاستقرار ويتذوقوا السعادة بعد الزواج، ولكن الواقع يخالف ظنهم ويخيب آمالهم.
في إحدى الإجازات الصيفية قامت الدكتورة بإجراء مقابلات منفردة مع عدد كبير من فتيات المدينة، وسألتهن سؤالا محددا، وحثت البنات على الصراحة والصدق في الإجابة، سألتهن عن سبب الرغبة في المؤهل الجامعي وخصوصا حلم الطبيبة والمهندسة!، وقامت بحصر الإجابات، ثم قررت بذل جهدها لهدف نبيل تُزيل به عن البنات وعن المجتمع حِملا ثقيلا.
توجهت الدكتورة لوجهاء المدينة ونُخبتها، وقامت بنشاط مكثف فردي وجماعي لإقناعهم بفكرتها، وفي خطابها قالت لهم: “وجهت سؤالا لعدد كبير من البنات، عن الدافع للتسابق للحصول على المؤهل الجامعي!، خاصة أن فرص العمل بالمؤهل تكاد تكون معدومة، فكان الجواب المشترك بجانب إجابات أخرى متفرقة هو؛ الحصول على فرصة أفضل للزواج، وقليل منهن من ذكرت أنها ترغب في العلم وحده كهدف، ولكن مع ذلك اعترفن بأنهن أيضا يضعن في الاعتبار المؤهل بجانب العلم كفرصة للزواج، ولكن من المفارقات المؤلمة أن أغلب البنات بعد الحصول على المؤهل الجامعي يجدن صعوبة في الحصول على فرصة للعمل، فالمهندسات والمحاسبات والمدرسات أغلبهن تزوجن وأصبحن ربات بيوت، لأن البطالة منتشرة وفرص العمل أغلبها للرجال على الرغم من ندرتها، كما أن لا أمل في تغير الحال في المستقبل القريب!
ولو قمنا بضم نتيجة هذا الاستبيان إلى حقيقة نلمسها جميعا، وهي أن نسبة الطلاق بين الزيجات الحديثة مرتفعة بدرجة حادة، ونظرا لأن أغلب الزوجات يحملن مؤهلات عليا، فهذا يعني أن المؤهل الجامعي لم يكن أداة مساعدة على النجاح في الحياة الزوجية، وحين أتحدث من منطلق تخصصي واختلاطي بعدد كبير من الزوجات الشابات، أؤكد أن هناك زيجات كثيرة هشة وتعيسة وفاشلة ولكن لم يعلن هدمها بعد.
أولادنا وبناتنا يدخلون الحياة الزوجية بلا أدوات كافية للنجاح في أمر جوهري مثل الأسرة التي هي نواة المجتمع.
ولهذا اقتراحي بأن تكون مدينتنا هي الرائدة في بناء مدرسة تتلو المرحلة الإعدادية، مدرسة ثانوية للفنون والأسرة، هذه المدرسة للبنات فقط، وبالجهود الذاتية، وتهدف إلى اكتساب مهارات فنية تكون لها أداة في تربية أبنائها وإدارة الحياة الأسرية بتناغم، فالفنون تغذي الإنسان بإحساسه وخياله وعاطفته.
في الماضي في إنجلترا وأوروبا؛ كان هناك مصطلح “Accomplished Girl“، وهو يعني فتاة مؤهلة بفنون ومهارات تصب في حياتها كأم وزوجة، وكان هذا من نصيب بنات النبلاء والطبقة العليا، حيث يجلب إلى القصر مدرسون للموسيقى والإتيكيت والرسم والتطريز وبقية الفنون لتعليم وتدريب الفتاة، مَدرستنا سوف تكون خاصة بتلك الفنون ويضاف إليها تأهيل البنت ثقافيا وتربويا لتدير أسرة، فتتدرب وتتثقف على كل ما يخص الزوج والأولاد وادارة البيت، فتتسلح بمؤهلات تفيدها في الحياة الزوجية وفي نفس الوقت يكون لها نصيب من الحس الفني وانطلاق الخيال.
لم يكن الأمر سهلا فقد استغرقت منها تلك الاتصالات خمس سنوات متواصلة، حتى تمكنت من الحصول على مؤيدين وداعمين ومتبرعين لهذا المشروع، وهذه معجزة، فالناس لا يفهمون إلا التبرع لمعهد ديني يضمه الأزهر، ولكن يصعب إقناعهم أن مدرسة بهذه المواصفات وبهذا المنهج لا يقل ثوابها عن ثواب التبرع للمعاهد الأزهرية، وهذا هو السر في أنها استغرقت خمس سنوات حتى أنجزت هذا العمل البطولي.
وبعد محاولات كثيفة حصلت على موعد مع وزير التعليم، عرضت عليه المشروع، ونظرا لأنه بالجهود الذاتية، وما على الوزارة سوى الموافقة ودعم المدرسة بكل ما يلزم من طاقم إداري وتعليمي، وأن تصبح تلك الشهادة معترف بها رسميا.
ومن حسن الحظ أن هذا الاقتراح وافق مناخا سياسيا يدعم هذا الاتجاه، وتم بناء المدرسة في سنوات قليلة وكانت الأولوية للالتحاق بالمدرسة لفتيات المدينة.
مرت السنون وكوضع طبيعي التحق بهذه المدرسة الفتيات اللاتي اضطرتهن الظروف لها، ولكن مع توالي الدفعات التي تخرجت ومع الحفلات التي تقيمها المدرسة ويُعرض فيها أنشطة البنات الفنية والثقافية والمهارية أمام الجمهور، بدأ الناس يدركون مدى القدرات التي تكتسبها البنات وكيف أنهن تميزن عن بقية البنات بميزات خاصة لا تتوفر في فتاة الجامعة.
وكانت تلك البذرة التي زرعت في المدينة لكي تكون مثالا ونموذج للمدن المجاورة لكي يقتدوا بهذا العمل النبيل والصالح.
والأمل في أن ينتشر هذا النموذج على حساب مدارس التجارة والصنائع للبنات، نظرا إلى أن خريجي هذه المدارس الفنية من الفتيات لا ينالون الفرص الوظيفية بسهولة، بينما الحاجة شديدة اليوم لفتاة مؤهلة للحياة الزوجية، وتملك المؤهلات التي تبني الأسرة بناء يصب في بنية المجتمع.