أيمن جبر
اللوحة: الفنان الإسباني خوليو روميرو دي توريس
جلست “أمينة” في الشرفة تحتسي الشاي الذي تسربت إليه البرودة حين غلبها الاندماج في الذكريات. كم تُحفر أحداث الطفولة في أعماق الأطفال بينما البالغون غافلون عنهم، لذلك يكبر كثير من الأطفال وتكبر معهم عقدة لا تزول؛ عقدة تنغرس فيهم بسبب اندماجهم في أحاديث وأحداث الكبار، فالأطفال هم آذان مُصغية بكل الجوارح.
كان انفعال “أمينة” بخالتها وتعلقها بها هي عقدة الطفولة، كانت خالتها أستاذة في مركز البحوث ومتزوجة من زميل لها بعد قصة حب مثيرة حفظتها “أمينة” من كثرة حكايات خالتها لها، لم تستطع خالتها الإنجاب، فكان نصيب أمينة من فائض مشاعرها غامرا فنالت من حنان خالتها العطشى للأمومة أكثر مما نالت من حنان أمها الرزين، كان زوج خالتها رجلا مثقفا دمث الأخلاق، غلبه حبه لزوجته وطبيعة شغله على حنينه إلى أن يكون أبا، ورغم إلحاح زوجته عليه أن يتزوج لينجب إلا أنه رفض ووعدها بالإخلاص مدى الحياة، ومرت السنون، وتقدم العمر بالزوجين فتسرب الإحساس بالفناء إلى الزوج، فمع ضعف الجسد وتقدم العمر تَضعف النفس، ثم يتحول الضعف النفسي إلى فزع، فزع من فوات الأوان، فتزوج وأنجب الرجل الخمسيني طفلا، ولما لم تطق الزوجة هذا السهم الذي غاص في كيانها في آخر عمرها طلبت الطلاق ثم عاشت سنوات قليلة في ألم وماتت بعدها متحسرة، تشربت أمينة كل هذه التجربة وسقطت عليها الدموع الغزيرة المنهمرة من خالتها، وأصبحت تلك القصة هي عقدة حياتها وكما يقول المثل العامي “اللي يخاف من العفريت يطلع له”.
لم يكن العفريت في “أمينة”، نعم هناك بعض العوائق التي تعترض قدرتها على الحمل ولكن العلم تقدم والحلول متاحة، مع ذلك فالعفريت كاملا كان في زوجها، وبعد فحوصات طويلة كان القرار هو إجراءات معقدة للحصول على طفل، هل تطلب أمينة الطلاق مبكرا ولا تتأخر مثل زوج خالتها؟ من يضمن لها أن تتزوج؟ من يضمن أنها سوف تنجب؟ ومن يضمن لها زوجا مثل زوجها الحنون والكريم؟ هل تغامر فتكون قصتها مختلفة عن خالتها ولكن تنتهي إلى مأساة أيضا؟ مرت أيام طويلة وأمينة غارقة في أفكارها.
وفي صباح يوم كانت جالسة في الصالون بينما “سعاد” الخادمة التي تساعدها في أعمال المنزل تشتغل في المطبخ، نادت عليها أن اتركي كل شيء وتعالي نتحدث، كانت سعاد أرملة شابة متوسطة الجمال، لديها ثلاث بنات، مات زوجها مبكرا فتغير الحال ولجأت للعمل في البيوت لتنفق على بناتها، عرضت عليها “أمينة” أن يتزوجها زوجها وتعيش هي وبناتها معهما في أسرة كبيرة، كان العرض مذهلا ومفاجئا ولكن لم يكن قبوله صعبا، فالأصعب كان قد مر بنجاحها في إقناع زوجها بالفكرة المجنونة.
أحمد: أريد ابنا من صلبي، فكيف أربي غُرباء؟
أمينة: دعك من وهم الابن من الصلب، فوراء هذا السراب تنكدت حياة كثير ممن سبقونا، نحن لن نعاند إرادة الله، الإنسان يحتاج أن يعيش عيشة طبيعية كما فطره الله، فالفطرة هي الأسرة وأن يعطي الأب والأم حنانا ورعاية فينالوا برا وإنجازا يتمثل في أبناء صالحين، وهذا ما ينقصنا، وهذا هو الحل.
أحمد: ولكنها أقل مني تعليميا واجتماعيا وأنتِ تفرضيها عليّ، من أدراك أنني أتقبلها زوجة؟
أمينة: أما عن التعليم والمستوى الاجتماعي فيكفي أننا سوف نرقيهم مع الأيام تعليميا واجتماعيا وهذا عمل نبيل، وأما عن تقبلك!؛ ألا يكفيك أنني ضغطت على نفسي ونفسيتي لاقترح هذا الحل المجنون؛ ثم أنت تريد مني أن أختار لك عروسا تكون حلوة في عينيك؟ هل تريد أن تختار يا عريس! كف عن النمردة.
لم يتمالك “أحمد” نفسه من الابتسام، فبالفعل هي على حق.
وتم الزواج المثير والغريب على المجتمع، ونالت الأسرة الكبيرة ما أرادت من صالح لها، مارست “أمينة” وزوجها الحياة الطبيعية وسط البنات، ونالت “سعاد” حياة زوجية هانئة وحفظت لأمينة جميلها وأصرت أن تظل تتحمل الجزء الأكبر من المهام في البيت كما كان من قبل، ونال أولادها حنانا وأمانا وتعليما.
ومرت الأيام ولم تتسرب أي غيرة أو ندم لأمينة، في البداية انهمر على أمينة وزوجها استنكارا وهجوما واتهاما عنيفا، انتقدها الأقربون بحدة أكثر من الباقين، ولكن رغم أن العاصفة كانت عنيفة ومتتالية في بدايتها؛ إلا أن المدهش أنه بعد تقديم هذا النموذج ورؤية الأسرة وهي سعيدة، تبعهما أناس آخرون بحلول مشابهة ومختلفة وتحقق نفس النتيجة التي تتغلب على وهم فيلم “جري الوحوش“.