مآب وائل
اللوحة: الفنان الإيطالي فابيو سيبولا
مرحباً ووداعاً ايُها القارئ، لقد قضيتُ دهراً بأكملهِ وأنا أسعى سعيَ الحِمار لتسلُق الجبال، كنتُ أسعى لأكونَ رجُلَ الميدان النحيفُ كما العيدان، كنتُ ألهثُ وراءَ نسيم الشُهرة والذكرى التي لا تفنى بموتِ الجسد ابداً، ولَكِن التاريخ لا يُمجِد سوى الأحصنة والحمير، الحميرُ لا تُذكر سوى على الهامِش.. ولكن أتعلمون ما أسوأ ما قد يُصيبُ الحمير؟ أن تعتقد أنفُسها أحصنة!
لا أعلَمُ إن كانَ مِن الضروري أن تحوي رسالة الوداع معلوماتٍ شخصية ولكني كُنتُ غريباً حد التخَلُف الذي يسمَحُ لي بتدوينِ نفسي قبل بترها، آهٍ.. ليتَ بوسعي بترها! أنا.. أنا آدم الذي قطفَ تُفاح الشجرِ المُحرم.
اللعنةُ على يديَ المرتعشتين، على تخبُطي، عَلى تبعثُري، وعلى عدم قُدرةِ قلبي أن يُصب الحِبر على تِلكَ الأوراق، لعلي أنجو، لعلي أموتُ وأُدفَنُ خفيفاً، كيف؟ كيفَ أدفنُ خفيفاً والحُبُ يُثقِلُ الكاهِل بشدة؟ رُبما ليسَ مِن المُهم أن أنفُضَ غبار الحُب عني، أو أن أعتَرِفَ، أو أن يعلم أحدُهم.
***
تَركَ القلم مفتوحاً، سحبَ الكُرسي المطوي عند جدار غرفة السطح التي يقيمُ فيها، أخذَ بيُمناه الحبل يتمناهُ كِتابُ الحِساب، وبيُسراه ضغطَ عليهِ بعدما لفَهُ حولَ رقبتهِ التي ستقطعُ، أغمض عينيه ولكن باغتَهُ صوتها، خليطُ الأنوثةِ مع الطفولةِ وهيَ تردد: لا أحد يرجو الموت، نحنُ فقط نريدُ قتلَ شيءٍ ما بداخلنا.. يتذكرُ أنَهُ جعل الصف يصفِقُ لأجلها، ليسَ لأنَها تلميذتَهُ المفضلة فحسب، بل لأنها صدقت، فهوَ الآن أمامَ هذا الحبل لا يريدُ قتل نفسه، بل قتلها هيَ، وما الفارق إن استوى كليهما حتى أصبحا في قاموسهِ شيئاً واحداً؟ أليست هيَ روحُه وشريانَهُ و..
اللعنة، اللعنة عليكَ وعلى هذيانِك يا آدم.. صرخَ بِها وهوَ يهبِطُ من الكُرسي للأرض، الأرضُ هيَ عقِابكَ من الرب يا آدم، لِمَ تعانُقها الآن؟
عادَ إلى الورقة والقلم العاري، اتخذَهُ وأعادَ الكِتابة في رسالة الوداع، إنَهُ يودِعُ نفسَهُ ليمضي بلا تفكيرٍ، وهيَ نفسهُ، إذاً، إنَهُ يكتبُ ليودعها هيَ وإذا ودعها ستنطوي ولن ترافقَهُ إلى قبرهِ، أجل!
ابتسمَ راضياً عن المعادلة والنتيجة التي فرضها بنفسهِ، اشتمَ قليلاً مِن مسحوق السحاب “الكوكايين” ورسمَ خريطة كالتي تظهر عندما تفتح خرائط جوجل، وضع إشارة عِندَ الفيُّوم كأنها الوجهة، حيثُ ولد وماتَ موتاً مقسطاً قبل أن يفرَّ هارباً بما تبقى، وأكمل المسير إلى محافظة القاهرة حيثُ احتضنتهُ كُلية التربية قِسم الرياضيات بعدما قذفتهُ كُليات القمم، انطلاقاً إلى الإمارات، الجنة التي أتتهُ بعقدِ عملٍ مُغرٍ، خرجت مِنُه ضحكة ممزوجة بالحسرة وهوَ يدون كلمة “الجنة” هل الجنة تعني كوابيس جُدران الوحدة وهيَ تطبِقُ على أنفاسَهُ وتسلِبُهُ حقَ البوح؟ هل الجنة تعني راتِبَ الملاليم وضيق السنين؟ هل الجنة هيَ الحُب المستحيل؟ ألقى القلم بسخطِ أكبر هذه المرة واستدارَ إلى الحبل، أما آن الأوان؟
تذكر حنجرتها وهيَ تنشدُ: “آن أن نحمي الحِمى والوطنَ، آن أن نُقصي العدو الأرعَنا”
حاولَ تذكر أول مرةٍ سمعَ فيها هذا النشيد وصوتُ النشيجِ يعلو، في المدرسة اللعينة التي سأمَ التدريس فيها؟ في الشارِع؟ اعتصر مُخه وابتسم وهوَ يقولُ: أجل! في القناة الثانية الإماراتية الشهيرة، كانَ يوم وفاة أحد حُكام الإمارات، كانَ المُذيع ينعيهِ بألمٍ وقهرٍ على خلفية نشيد الأبطال الفُرسان الشُجعان، كان يودُ لو يتحسرُ احدٌ لموتهِ، أو ينعيه أحدَهُم كفقيدُ العام، كان يتمنى أن يتألم لوفاتهِ شخص لا يعرِفُه ولم يُصادفه يوماً! لينعي هوَ نفسَهُ إذن، ويعلِنُ موتَهُ بألمٍ قبل أن يموتُ على الأقل:
سيداتي آنساتي سادتي، المتفرجين والمُستمعين، لقد خيمت على البِلاد اليوم فجر الخميس الموافق٢٢ مِن شهر يوليو سحُباً سوداء، أتت مُحملةً برياح السموم التي شنقت وقطعت النفس عن عزيز البشرية الاستاذ الفاضل المُبجل الجبان الذي يرفُض الاعترافَ بأنَهُ انتحر، أو بأنَهُ وقع في حُبِ تلميذتهُ ذاتَ السادسة عشر: آدم نصار.
أغمض جفونَهُ يحاول جذب جمل سيناريو التأبين ليبرُكَ في رأسهِ، يهِزُ لَهُ الطعام فيأبى، يلفظُ النقودَ في وجههِ فيسيرُ مُختالاً إليهِ.. عاد صوتُ المُذيع لرأسِ آدم: كانَ الأستاذ آدم محبوباً ومشهوداً لَهُ بالصفاتِ الحسنة مِن الجميع، كرّس حياتَهُ في التدريسِ في مدرسةٍ متواضعة لطلبة الصفِ العاشر، كانَ يكرَهُ التدريس والفتيات المُختالات بالنقود، ويكونُ سعيداً بيومِ التخرُجِ أكثر من الطلبة أنفسهن، حتى أتت الدُفعة المميزة، الفتاة المميزة المنزوية في زاوية الفصل، ولكن بريقها يشعُ ليُجبِرَ عيون الجميع أن تلتفت لها، بعد عامهِ الخامِس صرّح أحدُهم أخيراً أنَّ أستاذ الرياضيات شخص يُحتمل، “سوفيدا” ذاتَ ضفيرتي الشعر الكثيف جعلت مِنهُ رجُلاً يحتمل، أجبرتهُ الغُربة أن يفتح باب الدروس الخصوصية، ليست غُربة الفقر والحاجة، ولكن غُربة نفسه التي لم يعُد يكفيها لقاء الحصة.. بدأ يزوروها في بيتها، يكثفُ الحصص بلا أجرٍ لأجلها، ويجعلها ترسبُ لتطولَ المدةُ أكثر، كانَ يسَخّرُ عيناهُ للتحرُشِ بِها، ويُخفي الأقلام التي وضعتها على حدودِ خدودها أثناء التفكير، ويبتسمُ حينَ تضحك معهُ أو تذكُر أنها أصحبت تهوى الرياضيات مَعهُ، هوَ الذي هوى الحياة بسببها هواها..
هوَ والليالي يتصارعان بينَ مؤيدٍ للعقل وعاذر للقلب، هيَ في فنِ المحبةِ طفلةً، بينها وبينهُ أبحرٌ وجبال، أيَّ حُبٍ ذاكَ لينشأ بينهُما والحُبُ في قاموسهِما حرام؟ أكانت المشكلةُ فيها أم فيهِ أم في الأرض التي جمعتهُما؟ أفي المُجتمع؟ لو أنها أحبتهُ؛ لتحدى بِها المُجتمع والعالم والكون، اللعنةُ على الفؤادِ والروحُ المثقوبة لأجلها، كيفَ كانَ لَهُ أن يُنقِصَ مِن عُمرهِ لأجلها، هلَ بوسعِ النخلة أن تنحني، أو هل بوسعهِ هوَ أن يتعجلَ أجَلها؟ ماتَ وعاشت هيَ، مات لتحيا البهية.
اكتفى بهذا التأبين وعادَ للتعيين، يعينُ على صورتها المُعلقة في الجدار مُبتسمةً، جميلةٌ حتى الموت، حد السيفِ المغروس في خاصرتهِ، ينزِفُ وهوَ يسعدُ بالنزيف، اذاً، ما الذي يُشقيه؟ قلب اسمَهُ بينَ حُجراتهِ لا يؤويهِ، أم مُجتمع سينفيهِ؟ هوَ معلمُ الرياضيات كيفَ لا يرى أنَّ في العُمرِ فارِقٌ بقدرِ فارِق السماء والأرض، هل بينَ الأربعين والسادسة عشر الكثير؟ توقفَ، أعادَ قِراءة ما كتبَهُ، نظر للمدفأة التي لم تدفئَهُ يوماً، هل تصلحُ نار تِلكَ المدفأة لالتهامِ تِلكَ الأوراق على الأقل؟ جرّب ونجحت، أخيراً فعلت النار شيئاً والتهمت شيئاً آخر عوضاً عن روحَهُ الهالكة<
أخذَ قصاصةِ ورق متهالكة أخيرة وكتب: أنا أحبُكِ سوفيدا، حُباً يستحقُ أن أُطردَ مِن المدرسةِ لأجلهِ، أن أُمحى مِن نقابةِ المُعلمين لأجلهِ، أن أُطرد مِن البلد لأجلهِ، وأن أموت لعدم قِدرتي على اللقاء بهِ، بكِ، وبنفسي التي استحالت انتِ! وبعد ساعاتٍ ستسيرين على رفاتي ولن نكونَ آثمين.. تركَ القلم عارياً مُجدداً وصعدَ، أهو اخفُ وطأة؟ ابداً، لكن البؤس لن ينتهي، وتدوين عشقهِ لها لن ينتهي، وذكر عشقهِ لها بصفة المُستحيل لن ينتهي، وأرق أنها لم تُحبَهُ لن ينتهي، وحبهُ لها أبداً أبداً لن ينتهي، أما هوَ فعليهِ أن ينتهي..
***
الأحد، السابعة صباحا:
ولجت أمها للغرفة بهدوء لتجدها مُستيقظةً ترتدي ملابسها، ضحكت على الطالبة المُجدة التي تذكِرُها بنفسها أيام الصبا، وطلبت مِنها أن تخلع ملابسها وتعودُ للنوم قائلةً: لقد أرسلت مدرستُكِ رسالةً بتعطيل الدوام المدرسي اليوم.
خرجت أمها تُلبي نداءَ أبيها قبل أن تذكُر لها السبب، بينما خلعت سوفيدا عنها ملابسها جلست على السرير، فتحت مُذكراتها وبدأت تكتُب:
بعدَ شوقٍ ذبحني طوالَ عُطلة الصيف، كنتُ مُشتاقةً لأعود، لأراهُ، لأُحييهِ وابتسِم لَهُ، ثُمَ أطلبُ الانفرادَ معهُ في غُرفة المدرسين لأخبرَهُ أني لستُ مُراهقةً ولكني مِن قلبي أُحِبُه للغاية، وبأنَهُ آدمُ، جنتي التي لم يمسسها بشر، تم تأجيل حُلم إجازة الصيف ليوم غدٍ على الأرجح.
أغلقت مُذكراتها على صوت أمها تدعوها للطعام قبل النوم، دلفت وأبوها يتمتم ويحوقل: كانَ رجُلا مُحترما، الله يرحمه.