د. خالد عزب
اللوحة: الفنان الإنجليزي جون فردريك لويس
يردد علماء الأثار في كل جامعات العالم في قاعات الدرس لطلابهم عبارة يجمعون عليها هي (أنفق المصري القديم الكثير من الوقت والجهد والمال للإعداد للموت وتجهيز مقبرته) وآثار مصر التي يقبل عليها السياح من كل أنحاء العالم ما هي إلا مقابر، فالأهرام في الجيزة وسقارة ودهشور مقابر، ووادي الملوك ووادي الملكات في الأقصر مقابر شيدها المصر القديم، وفي العصور الإسلامية مقابر المماليك في القرافة وأشهرها مدرسة السلطان قايتباي ماهي إلا مقبرة للسلطان، الأن مصر تزيل حقب كاملة من تاريخها بإزالة مئات المقابر التي هي حلقة في تاريخ تطور عمارة المقابرمنذ عصور ما قبل التاريخ إلى الأن، لم تكن المقابر في مصر مكان لدفن الموتي بقدر ما كانت تعبير عن الرغبة في حياة أبدية سعيدة في العالم الأخر، لذا صار للموت قدسية وحرمة في مخيلة المصريين، لذا صار للموت فلسفة في حياة المصريين، وحين تقوم بإزالة مقابرهم فأنت بذلك تجرح هذه المخيلة وتتعرض للسخط بالدعاء عليك منهم، القضية هنا أيضا ترتبط بأن المشاهير والأعلام من المصريين دفنوا في القرافة القاهرية منذ الفتح العربي إلى الأن، فورش وهو صاحب القراءة القرآنية الشهيرة في العالم مدفون في القرافة، ومن المدهش أن العديد من مقابر مشاهير المصريين صارت تطلب زيارتها منذ عصور قديمة، حتى ألفت مؤلفات في الإرشاد السياحي لزيارة المشاهير من الأولياء، فالكندي والقضاعي وغيرهم ألفوا كتب في الزيارة وإرشاد الزائرين لمقابر هؤلاء، ولنذهب معا إلى السيدة نفيسة التي دفن إلي جوارها: أمير الشعراء أحمد شوقي ومدفنه تحفة فنية أزدان بخطوط اثنين من مشاهير الخطاطين في العالم الإسلامي هما يوسف أحمد وسيد ابراهيم، وبالقرب منه قبر حافظ ابراهيم الذي شيد بطريقة معمارية فريدة حيث تعلوه قبة ترتكز على أربع دعامات دون جدران وهو ذات تصميم قبر حافظ الشيرازي الشاعر الايراني الشهير المدفون في شيراز وقد حولت ايران قبره إلى مزار سياحي، وعلي بعد خطوات منهما قبر الشيخ أحمد رفعت أشهر من قرأ القرآن الكريم في القرن 20، بل القضية التراثية هنا أعمق من ذلك فقد تبارى المعماريون المصريون في تصميم المدافن وقبابها حتى رأينا استعادة واحياء للعمارة الاسلامية بروح جديدة، بل الدهشة من تصميم معماري لمدفن في السيدة نفيسة على طراز المعابد الفرعونية.
السؤال المحير هنا امام كل مصري: هل تتحول المقابر إلى عائق أمام أي جهود عمرانية أو تنموية؟ ليطرح عليك سؤال أخر: هل إزالة المقابر حرام في حين أن الرسول صلى الله عليه وسلم حين نزل المدينة المنورة أزال مقابر كانت في موقع مسجده؟
ليطرح عليك سؤال: هل نحن نزيل المقابر التي هي جزء هام يؤرخ لمصر ونفقد للأبد تراث مصري؟ ليطرح عليك سؤال: هل نحن عاجزين عن توظيف مقابر العظماء في ترسيخ الهوية الوطنية وفي جذب المزيد من السياحة لمصر؟
الحقيقة إن مثل هذه القرارات المتعلقة بالموتى تحتاج إلى وضوح وإلى اظهار الغاية من ذلك، لأن القرار إذا لم يكن له مبرر أو بديل قوي فسيكون محل سخط عام، فمن الصعوبة على مصري أن يعيد دفن احبائه، الابن حين يعيد دفن أبيه أو أمه أمر صعب للغاية على النفس، من الصعوبة على الأب إعادة دفن ابنه أو بنته المتوفاه في ريعان شبابها، أعرف أن هذا طرح صعب على من يقرأ هذا المقال لكنها الحقيقة المرة التي لا يعيها سوى من مر بهذه التجرية المريرة، فلذا حين لا نشرح للناس ونقنعهم بأنه لا يوجد بديل أخر، يترك هذا التجاهل في نفوس الناس جروح نافذة من الصعب علاجها.
الأمر الأخر سيسجل التاريخ لمن اتخذ هذا القرار بإزالة مدافن هي جزء من سيرة الوطن وتريخه وتراثه الفني والمعماري، أنه دمر تراث وتاريخ الوطن، هذا في حد ذاته يتطلب مراجعة بعمق وبتفكير، ودراسات اجتماعية وانثربولوجية واقتصادية حتى يكون الأمر في اطار يمكن تقبله الآن وتقبله من قبل الأجيال القادمة التي ستذكر أن من سبقوهم دمروا تاريخ الوطن.
إن الطرح الايجابي يتطلب تأجيل قرارات الإزالة وتشكيل لجنة تتخذ قرارات في هذا الشأن يكون أعضاؤها من خبراء وطنيين في التراث والتخطيط العمراني لمراجعة هذا الملف، واقتراحي أن تنشئ مصر متحفا للموت في ذات المنطقة، يتم جمع التراث الذي يمكن نقله لهذا المتحف الفريد من نوعه على مستوي العالم، ثم تجنب إزالة مدافن لها قيمة معمارية وفنية فريدة، وتحويل المناطق حولها لحدائق وهو ما كانت عليه قديما حيث كانت تضم متنزهات جاذبة للمصريين، وانا هنا أتحدث مثلا عن مدفن أمير الشعراء أحمد شوقي وضريح الشاعر حافظ ابراهيم على سبيل المثال لا الحصر، وهو ما انتقل لاوربا من تراثنا، فالمدافن في لندن فيها حدائق تجذب مئات الزائرين، بل إن الكثيرين لا يعرفون أن قبة الامام السيوطي المجاروة لميدان السيدة عائشة يوزرها مئات الزوار من خارج مصر، ولقرون ظلت مزارا سياحيا لكل من يأتي إلى مصر، فما المانع أن نرممها وأن نقيم إلى جوراها متحفا لمخطوطات وحياة السيوطي أليس هذا متحفا جاذبا للآلاف من مواطني الدول الإسلامية لزيارة ضريح السيوطي أشهر علماء الاسلام، إن ما لا يعرفه الكثيرون أن مناطق القرافة في مصر؛ من مصر القديمة إلى العباسية إلى جوار سفح المقطم، لو في بلد أخر لصارت منطقة حفائر أثرية ستقدم لنا الكثير من المعلومات المفقودة من تاريخنا وتكشف عن تراث مفقود، فمثلا مدينة العسكر التي كانت عاصمة مصر في العصر العباسي تقع أسفل مقابر السيدة نفيسة، بل إن مسجد السيدة نفيسة بني فوق المسجد الجامع لمدينة العسكر، وبالتالي ستجد حول هذه المنطقة تلال أثرية أقربها التلال التي بنيت عليها منطقة زينهم، إن هذا المقال هو دعوة للمراجعة والتفكير بل ودعوة لأن نفكر سويا لمصلحة مصر وتراثها ومستقبلها.



