اليد واللسان والقلب

اليد واللسان والقلب

أيمن جبر 

اللوحة: الفنان الفلسطيني محمد الركوعي


في صلاة الجمعة، اكتظ المسجد في الداخل والخارج بالمصلين؛ فالخطيب الشاب أصبح أمل الناس في إعطاء قيمة لخطبة الجمعة، رغم أنه مُقيد كأقرانه من الخطباء إلا أنه لا يدخر جهدا في النفاذ من أي ثغرة يصل بها لضمير الناس، فيستدعي من الدين ما يُصلح الحياة ويوحد الجهود، فالناس لم يتعلموا كيف يعملوا معا، قرأ الخطيب الشاب الورقة وهو ينظر إليها ولا ينظر إلى الناس ولما فرغ منها؛ نظر إليهم طويلا دون حديث.
فزاد فضول الناس لسماع ما سيقول، وأطرقوا الآذان، تحدث عن تغيير المُنكر باليد واللسان والقلب، وأن من يملك اليد لا رخصه له في اللسان، ومن يملك اللسان لا رخصه له في القلب، ومن يملك القلب فقط فيا خيبته وخسارته إن ضل قلبه ومال للباطل. ثم قال: ومع ذلك، سوف أطالب الجميع؛ بخطوة صغيرة لتغيير المنكر؛ هي بين اللسان والقلب، ويستطيع الكل فعلها.طلب منهم جميعا، كي يفلتوا من ذنب المشاركة في الإثم والسكوت عنه؛ أن يقوم كل واحد من الناس بكتابة شكاوى متوالية لا تنقطع، حتى لو كتبت “بدون توقيع”، يرسلها للمسئولين يشرح فيها الفساد الفردي الذي عاناه أو عاينه، ومن لا يخشى على نفسه من نتيجة فضح الفساد فعليه بوسائل التواصل الاجتماعي؛ ليكتب شهادته ويسجل تجربته.
وقال: “أناشدكم جميعا؛ أن لا تملوا من كتابة الشكاوى، فهي ستشهد لكم أمام الله أنكم تتبرؤون من الظلم“.، ولا أدعوكم إلى ما فوق طاقتكم، لا تعتادوا الفساد، أخرجوه من دائرة طبائع الأشياء.
ومن لن يفعل؛ فأنا ألعنه وأدعوا عليه أن يزيده الله شقاء فوق شقاء، وضلالا فوق ضلال، لأنه لا عذر له.
سرت في المدينة هذه الدعوة اليسيرة على الناس والمؤلمة للفاسدين، وامتلأ البريد بخطابات الشكوى من الفساد والفاسدين مع ذكر الأسماء والحوادث، ولم يكسل عن هذا العمل مسلم أو مسيحي، رجل أو أمرأه.
وهكذا الناس؛ في حاجة لمن يبين لهم وسعهم، شرط أن يرفق بهم في تكليفهم، وها قد كلفهم الشيخ بما في وسعهم، وما يريح ضميرهم.
بعد تلك الخطبة؛ لم يكن هنالك بد من القبض على الخطيب الشاب، فقد تجاوز بدعوته تلك كل الخطوط الحمراء.
فشعب يشكو يعني شعب يصحو، حتى لو كانت شكوته باسم مجهول فمن يضمن أن بذرة الإيجابية تلك لن تصبح أشجارا وثمارا تطرد كل خبيث وفاسد؟ واختفى الخطيب الشاب عن صلاة الجمعة، وفوجئ الناس بخطيب يحل محله، أصابهم النعاس في الخطبة وأمات الخطيب عليهم دينهم وحياتهم؛ وعادت ريما لعادتها القديمة.
فوجئت رئاسة الوزراء وكل الوزارات بسيل من الشكاوى الخالية من التوقيع تنادي بالإفراج عن الخطيب الشاب، وصل الأمر إلى أن الناس كانوا يستيقظون من نومهم ليكتبوا عدة شكاوى يرسلونها في كل الاتجاهات، فهذا هو الدرس الأخير للخطيب الشاب، فلا بد من أن يذاكروه جيدا ويطبقوه كما أوصاهم، ثم تبع هذا النشاط ظاهرة غريبة؛ فقد جاءت بعض الشكاوى بتوقيع صريح، وبمرور الأيام يزيد عدد هؤلاء الذين يوقعون باسمهم.
ويا سلام سلم الشعب بيتكلم.

لم يزعج السلطات مثلما أزعجتهم تلك الوقاحة، فالبعض نزع ثقل الخوف من على كاهله، وربما يزيد عددهم وخطرهم.
في يوم أثناء درس الأحد قام “القسيس” بكتابة شكوى باسمه، ناشد الحاضرين للقداس أن يشاركوه، وقعوا شكوى جماعية بالأسماء تناشد السلطات الإفراج عن الخطيب الشاب. وكانت نكتة ونادرة وضربة قاسمة أن يطالب “بطرس وجورج” بالإفراج عن الخطيب المسلم.

وفي الجمعة التالية حدث تطور غريب ومفاجئ، لم يحضر في مسجد الخطيب الشاب أحد، لجأ الناس للمساجد الأخرى، وتركوا المسجد خاويا، وكانت تلك الحادثة هي حديث المدينة، وهنا صدر التساؤل الذي لم يخطر ببال أحد، أن يدور بين الناس، هل يتطور الأمر فيقاطع الناس صلاة الجمعة في كل المساجد؟ وهنا لم تستطع السلطة أن تصمد، فهذا منحدر خطير.
أفرج عن الخطيب الشاب، لم يمنعوه من الخطابة؛ لأنهم لا يريدون أن يدخلوا في نفس الدائرة من الشكاوى، وربما تنموا دوائر أخرى لم تخطر بالبال، وخافوا أن يتسبب العناد في موجة تالية وأشد من الشكاوى، وموجة وراء موجة قد يُعرض الأسوار للهدم.
وفي خطبة الجمعة، وقف الخطيب الشاب، وتلى خطبته المكتوبة ثم نظر إلى الناس، وقال:
أيها الناس، أحفظوا عني:
سلامة المواطن قبل سلامة الدولة.
كرامة المواطن قبل كرامة الدولة.
حرية المواطن لا يساوم عليها.

الدين حرية.. الدين كرامة.. الدين عدل.
لم ينقطع الزوار عن “الخطيب الشاب” لتهنئته بالسلامة.
ولم يعرج على قص تفاصيل ما حدث له في هذه الغيبة. فقد لخصها في كلمة واحدة؛ الإهانة
خرجت نكتة من أحد الحضور، حيث قال: نحن كلنا واقعون في الإهانة، فهي وباء شعبي، والأولى أن نُنشئ حزب، لا للإهانة. ضحك الحضور، ولكنها كانت كطاقة نور أضاءت في ذهن الخطيب الشاب؛ فقال: وجدتها”.. مقتديا ب “أرخميدس”.
في مكتب المحافظة كان يجلس مجموعة من الشخصيات العامة في المدينة ومعهم “الخطيب الشاب. طلبوا مقابلة المحافظ، في النهاية قابلهم وشرحوا له أنهم يريدون تكوين جمعية!، ظن الوزير أنهم يريدون جمعية خيرية، فهذا هو العرف من زمن سحيق، لكنه دهش كثيرا عندما قالوا أنهم يريدون الموافقة على تسجيل جمعية بعنوان لا للإهانة، شرحوا له أنها جمعية سلمية، تريد أن تخدم الناس، فالجمعية تعتبر أن المصري لا يجب أن يهان بعد اليوم، وهذا الهدف النبيل، يحتاج جهدا كبيرا في الناس، جهدا لدفع الإهانة وجهدا للتوعية برفض الإهانة، الفقر إهانة، المحاباة إهانة، القهر إهانة، الذل إهانة، الرشوة إهانة، الفساد إهانة، التزوير إهانة
نحن نريد أن نكافح الإهانة في النور، نريد أن نرفض ونقاوم ونقبل في العلن.
رغم أن الوزير تفاهم مع الفكرة إلا أنه اعتبر أنهم خياليون. لكن نظرا لأنهم شخصيات محترمة ولها حيثية؛ أخبرهم أن الجمعيات تحتاج تصريح وموافقات عديدة؛ وعدهم أن يبذل جهده لتسهيل تلك المبادرة المدهشة، غادروا وهم يعلمون أنها محاولة لن تنجح بسهولة، بل هي أقرب إلى المستحيل.
ومرت شهور ولم تفلح كل المطالب والطلبات الإجرائية الرسمية في نيل الموافقة، وحدثت اتصالات من السلطة معهم لحثهم على التخلي عن الفكرة، وعندما يئس “الخطيب الشاب” من نيل الموافقة، وأدرك أن الأمر يحتاج سياسة النفس الطويل، ويحتاج البناء من أسفل، قام بنشاط مكثف مع الناس، وحثهم على أن تكون تلك هي الكلمة التي لا تنقطع عن لسانهم وعن فكرهم، وليس شرطا أن يحتضنها حزب ولا جمعية، نحن الذين سوف نُسكن ونطبع هذا المفهوم في النفوس، لا داعي لتصريح ولا إذن، سوف أجعلها في كل خطبي ومجالسي مع الناس ولن أنتقل عنها حتى تختفي الإهانة من مجتمعنا، وأول خطوة أن نتوقف عن تبادل الإهانات بيننا، هذا دوري، فليفتش كل منا عن دوره، ولا يجب أن نكف حتى نصل إلى أن يرفض الناس ما كانوا يقبلوه بالأمس، وأن يتربى الكل ثانية على هذه القيمة.
وأصبح حديث الناس في المدينة كلهم عن “الإهانة“.
أصبح “فكري” وأطفاله جميعا، يؤلفون ويتداولون قصصا عن الإهانة، وكيفية مقاومتها سلميا، ومعنى الكرامة، ومن هو الكريم، ومن هو المٌهان!، يقف الصبي في المنتصف، ويحكي للناس رواية “الإهانة والكرامة التي أصبحت كل الروايات اليومية بعنوانها.

قام الشباب الذين ناهضوا الدروس الخصوصية بتخصيص مقدمة قبل أي درس عن الإهانة، واشترك الجميع في تلك الموجة والتيار، بما فيهم الآباء الذين أجبروا المدير والمدرسين على الالتزام في مدرستهم.

قام بعض الشباب الموهوب بتأليف وتلحين نشيد “لا للإهانة” وأصبح على لسان الجميع، وفي حفلات الزفاف وأشباهها كان الحضور جميعا يغنون هذا النشيد.
حتى الأستاذ “سرحان” الذي كان بالأمس ممتلئا بالغضب من الأولاد الذين أجبروه على الالتزام في المدرسة، اليوم وجد نفسه يمتلئ سرورا لهذه الحيوية التي سرت في المدينة، فمن هو الأحمق الذي يقبل الإهانة، شارك كل من المسلم والمسيحي، الرجل والمرأة، أصبح الكل في واحد. وأصبح الطفل عندما يشتمه أباه جادا أو مازحا؛ يرد كما تَعلم: “لا للإهانة يا أبي”، والتلميذ في المدرسة حين يوبخه المدرس بكلمة لا تليق؛ يقول له “أستاذي العزيز؛ لا للإهانة”، وفي المصالح الحكومية والعيادات والشركات؛ عندما يقوم أحد بتخطي دوره، ينادي كل من في المكان في هدوء وثقة وسلام “لا للإهانة” فيتراجع وهو يبتسم موافقا. وسرعان ما سرت الموجة في سلام بين الجميع، وها هي الإهانة تضعف وتولي ظهرها وتكاد تتلاشى.


وشارك “مخلص”، هل تذكرون مخلص؟… للأسف لا يعرفه سوى أنا وأنتم. عرف الجميع عدوه.

في الماضي كانت تُعرض كتب وأفلام قصيرة بعنوان اعرف عدوك، تشير إلى “إسرائيل”، ولكن الناس أدركوا بوعيهم أن إسرائيل جاءت من ثغرة الإهانة؛ وهزمتهم بالإهانة وأذلتهم بالإهانة. ولو رفضوا من البداية الإهانة؛ لما بقيت إسرائيل إلى اليوم، فالشعب المهان يستحق كل بلاء. ولا نعرف ماذا سيحدث في الغد القريب، ولكن مثل تلك المدينة التي تزخر بمثل هؤلاء الذين لم يفعلوا مثل الناس، ولم يقعوا في أسر الغفلة المجتمعية، فابتدعوا حلولا وأعمالا عبقرية خارجة عن المألوف وتصب في صالح الناس، هذه المدينة لا يمكن إلا أن تنال ما تستحق، فقد استجابت إلى الأمر الإلهي بتغيير ما بأنفسهم.

أصبحت السلطات تشعر أن الجسد الاجتماعي الذي تحكمه صار ينموا، مثل الطفل ينمو فتضيق عنه ملابسه ويقضي زمناً يشعر بالضيق دون ان يجد له تعليلاً، حتى يصل إلى النتيجة الطبيعية، بأن تلك الملابس ما عادت صالحة له وتوجب خلعها، أو تجديدها وتكبيرها لتوائم الجسد الجديد الناضج الواعي والبالغ. ولا يزال الجميع ينتظر.. وهم في ثقة من الجائزة. «إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ».

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s