اللوحة: الفنان الروسي مارك شاجال
تشابهت وجوه الخلق، فبهتت التفاصيل التي تفرّق واحدًا عن الآخر، كأنما أصاب الناس وباء جديد، لمَ لا، النوازل تتوالى على رؤوس الجميع دون فسحة من الوقت أو هدنة!
لم أعد أميّز بين المارة من حولي إلاّ حينما يعترضني أحدهم بسؤال أو يعرّفني بنفسه، حينها تتضح بعض قسمات وجهه قليلًا، يتوارى التجهم بعض الوقت للخلف، غير أن الكآبة تظل لها اليد الغالبة على الكل، فلم أضبط امرئ يبتسم لسنوات ثمانية خلت.
لذلك لم أهتم بمعرفته حين اعترض طريقي أحدهم، قال لي أن صداقة قديمة نشأت بيننا، وأن الزمن فعل بنا فعلته فباعدتنا الظروف ومنعتنا التواصل، كان يكلمني وأنا أنظر إلى وجهه، تلاشى بداخلي كل شغف وبات حالي هو حال الغالبية، ننتظر مجهولًا نخشاه، نهاب الحديث عما يحدث، نلجأ للرمز، نلعن الظالم حين نختلي بأنفسنا، لكنّا ننافق حتى النخاع علنًا، فليس من بيننا من برئ من آفة النفاق والتطبيل، نُخرج طاقة العنف بداخلنا على الأضعف منّا شأنًا، لا مانع أن نسبّ الكلب النابح من بعيد، نرمي هرّة تموء من الجوع بحجر، نستعيذ من نهيق الحمار ونحسده في آن على صبره وقدرته حين يغازل اتان في وضح النهار.
- ضرب صدري بقبضة يده برفق كأنما يردّني إليه، وقال يخاطبني: أنا “صبري”، صديق قديم، ألا تذكرني؟
قلت بنبرة تحمل قليل من جفاء: أهلًا وسهلًا، ثم التزمت الصمت حتى يفرغ من حديثه، انصرف إلى سبيلي.
- اشتريت بالأمس “حبة الغلال”. أتعرفها؟
فهززت رأسي، كأنما أرجوه أن ينهي حواره المنفرد، فقال: سوف أتناولها وأتخلّص من حياتي، سأفعل ذلك حين تنسد السبل في وجهي، حين أوقن أن بنهاية النفق قطارًا قادمًا ناحيتي، لن أنتظر حتى أصبح مضغة في الأفواه، ضاق صدري بكل شيء، ضاقت الحياة في عيني حتى غدوت أنظر إليها من ثقب إبرة.
قلت: رفقًا بنفسك، فالناس كلهم في كرب شديد، الأزمة آخذة برقاب العباد، لعل الحال ينصلح.
فعاجلني: أتعتقد أنني لو انتحرت بحبة الغلال، هل أموت كافرًا؟
قلت بجزع من لا يزال بقلبه بقية إنسانية: رحمة ربك وسعت كل شيء.
فقال ودموعه تغلبه: هل يغضب الخالق إن سبقت قدري وذهبت مبكّرًا إليه؟ هل أذهب إلى ناره؟ أتدري أن جحيم العيش في هذا البلد الآن يفوق أي جهنم أخرى، على الأقل يا صديقي سأعرف مصيري هناك حين أذهب إليهم، بينما أنا هنا أخاف كل ثانية، أخشى من يطرق بابي طلبًا لسداد فاتورة لا أقدر عليها، أو جباية لإتاوة جديدة.. انطلقت من صدره زفرة حارة، أكمل: باتت الحياة صعبة للغاية على أمثالي على الأقل.
- رجوته أن يخفض من صوته، فالمارة ينظرون إلينا، غير أنه فاجئني بقوله: أتراهم يحسدونني على قراري؟
لم أملك غير أن أُخرج بعضًا مما في حافظة نقودي، دون أن يراني وضعت المبلغ في جيبه، غير أنه ردّه إليّ، قال: لا أريد أن أذهب إلى آخرتي بدَين جديد في رقبتي، ثم ندّت عنه ضحكة قصيرة وأكمل: استدنت جنيهات حتى أشتري “حبة الغلال” هذه، أخرج من جيبه شيء ما وقذفه في حلقه، ثم نطق الشهادتين وسط تهليل جمع غفير من الناس ومباركتهم للفقيد.