د. أسماء جابر
تعد الرواية العربية المعاصرة أكثر النصوص الإبداعية ازدحاما بالمعالم الحضارية والفكرية والنفسية، وأكثرها رصدًا لمظاهر الوجود الإنساني فهي ترصد الإنسان في شتى حالاته وانفعالاته، وتعبر عن آماله وآلامه في آن واحد، كما تتصدر الرواية الأجناس الأدبية أيضًا في تصوير الصراع الإنساني سواء مع الذات أو الآخر؛ قد ساعدها على ذلك كونها أعمق الأجناس الأدبية وأثراها من حيث المحتوى فهي تقبل السرد المفصل، الذي يتقبله المتلقي بصدر رحب، وقلب مفتوح متلهف للمزيد والمزيد…. فالرواية تعبر عن توليفة متجانسة من المشاعر المتناقضة التي تعتري صدر الإنسان في اللحظة ذاتها.
والرواية تحتاج إلى مبدع يمتلك أدواته، ولديه زاد معرفي غزير، يعي تمامًا طبائع النفس البشرية المختلفة، ليستطيع أن يتلبس شخصيات عمله قبل أن ينسجها كلمات على ورق، وقد جاءت رواية “بنات بالتيمور” للمُبدع محمد عبد الحافظ ناصف، المنشورة عن “دار الفاروق” عام 2023، لتدهشني باسمها الغريب بعض الشيء، وإن كنا قد اعتدنا ذلك، فقد يحرص الكثير من الكتاب أن يضعوا رواياتهم تحت عناوين براقة غريبة خاطفة؛ لأسباب تجارية أو شخصية، وتتفاجأ بوصفك متلقيًا بعد مطالعتك العمل، ببعد هذا العنوان تمامًا عن مضمون العمل وفحواه؛ فتكتشف النية السيئة للمؤلف، ولكن في تلك الرواية كان الأمر مختلفًا، حيث تعبر تلك الرواية صدقًا عن حال ثلاث بنات مصريات بتلك المدينة الأمريكية التابعة لولاية ميريلاند التي تقع بها واشنطن عاصمة الولايات المتحدة الأمريكية، التي نعتها الكاتب بالمدينة السمراء، المدينة الباردة طقسًا وحياةً، تلك الرواية تعج بمظاهر الصراع من أول سطر حتى آخر كلمة، سواء كان هذا الصراع صراعًا مع الذات أو الآخر أو حتى صراعًا مع الطبيعة…
كما عالجت أيضًا بين ثنايا سطورها القضية الأزلية “الصراع الحضاري بين الشرق والغرب”، فهي من أكثر القضايا إثارة للجدل، وكل مجادل يدلو بدلوه؛ لنكتشف في النهاية أننا أمام ثلاث تيارات أولها معارض دائمًا لا يقبل هذا الانفتاح الجارف الذي بدأ يفرض نفسه فرضًا، وثانيها منبهر بذلك الانفتاح راغب فيه كأنه خلاصه الوحيد من مجتمعات عقيمة تسلب منه حريته، أما ثالثها فهو مؤمن بقانون تبادل المنفعة، فيرى أننا نستطيع الاستفادة من مظاهر حضاراتهم مع الاحتفاظ بهوياتنا وإن كان هذا أمرًا مستحيلًا دون دفع ضريبة تلك المنفعة، كما أشار “ناصف” في روايته لقضايا أخرى كقضية زواج القاصرات وأيضًا تأخر سن الزواج للإناث، وقضية العنصرية، كما أشار إلى سياسة “السادات” في التعامل مع الكيان الصهيوني، واليساريين والإخوان المسلمين، كما أشار لقضية الثقافة الجنسية، ويلات الغربة، تهرب الموظفين من العمل، الرشوة، الجريمة، فقد الأمن والحرية، الخوف من المجهول والموروث، عبثية الحياة، تزييف الحقائق، النظرة للمرأة، فقد قدم صورًا عدة للمرأة غاية في الروعة والشمول وجعلها رمزًا للقوة والصبر والتحمل والجمال، وأحيانًا يلبسها صفات تناقض ما سبق؛ ليضفي على الرواية صدقًا حيث صور المرأة حالمة ويائسة، صابرة ومتعجلة، راضية ومتمردة، مشاغبة وهادئة، متحررة ومتحفظة، عنيدة وقابعة، وعمد إلى كشف المستور عن كثير من القضايا الشائكة وتسليط الضوء عليها فقط في بعض الأحيان دون معالجة صريحة، وفي أحيان أخرى قدم معالجة.
ورواية “بنات بالتيمور” مليئة بمظاهر الصراع الثقافي والفكري التي يعاني ويلاتها العرب بالمجتمع الأمريكي، فهو مجتمع يحوي الكثير من الأيدلوجيات والثقافات المتباينة التي يدعي أنه يحتضنها جميعًا تحت كنفه، ولكن تأتي الرواية لتكشف عكس هذا في بعض الأحيان، فهو مجتمع يدعي المثالية، ولكنه يبقى مدعيًا لا أكثر، فقد صور لنا الكاتب بعض مظاهر القمع والعنصرية التي يتعرض لها العرب بأمريكا في بعض الأحيان، فالكاتب يعي بشدة الأطر السوسيوثقافية للمجتمعين اللذين جعلهما أرضًا لروايته.
تنوعت مظاهر الصراع في الرواية لتشمل:
1 – الصراع مع الذات
الذي صوره الكاتب في مشاهد منها صراع البطل “حسن” مع ذاته بين قرارين كلاهما صعب، أما الأول فخروجه للبعثة التعليمية بأمريكا، والثاني مكوثه بجوار والده قعيد الفراش الذي يظن أن أجله سينقضي بمجرد خروجه للسفر، فقد قدم الكاتب هذا الصراع بكلمات كاد القلب ينفطر منها فقال: “كيف يموت أبوه وهو بعيد عنه؟ كيف لا يضعه بيده في قبره؟ كيف لا ينثر عليه التراب كما أكد له في بعض جلساتهما الخاصة جدًا؟ كيف يتركه عاريًا بمفرده بين يدي المغسل يقلبه كيفما يشاء؟”.
وصراع “فاروق” الداخلي نتيجة تأخر سن زواج بناته، فهو يصف تأخر زواجهن بالأزمة، وإن كنت أظن أن هذه المعاناة غير منطقية؛ فابنتاه “إيمان” و”سناء” ما زالتا تدرسان بالجامعة، وهذا يعني أن عمرهما لم يتخط حاجز العشرين، أما الثالثة “ياسمين” قد اقتربت من الثلاثين، فهو يصف هذا الأمر بالأزمة قائلًا على لسان “فاروق” محاورًا زوجته “سنية”: “البنات كبرن يا سنية”. لترد “سنية”: “أعلم ما تريد أن تقوله، نصيبهن سيأتي وأحسن مما تظن يا رجل”. ليسألها متعجبًا: “من أين؟”، فترد عليه بحل: “تحرك قليلًا بين إخواننا المصريين والعرب هنا”، فيرد عليها مستنكرًا: “لم يبق إلا أن أعمل إعلانًا وأقول للناس عندي بنات للزواج”.
وبعد التوغل في أحداث الرواية نكتشف أن “فاروق” هو أحد مسببات هذه الأزمة، فهو يرفض أن يزوج بناته خارج أمريكا إلا لمصري، فيقول الكاتب عنه: “فما بال والدها الذي لن يقبل مجرد مناقشة الفكرة لأسباب هي تقدرها، أهمها أنه لن يترك بناته تغادره إلا لمصر، فلديه قناعة أن الجميع في الهم عرب، هذا قراره منذ أن رزقه الله بثلاث بنات”.
فيستأنف ساردًا موقفه من ذلك الشاب الماليزي الحاصل على الدكتوراه، الذي تقدم لـ”ياسمين” وبذل مجهودًا ضخمًا ليقنعه لكنه رفض، رغم درجته العلمية الكبيرة، ومكانته في وطنه، وتدينه وأخلاقه الرفيعة، وبهذا الشرط القاسي يعد “فاروق” أحد مسببات الأزمة.
ومن ألوان الصراع مع الذات رفض فعل يغضب الله ويجرمه القانون، كإعطاء رشوة لموظف باع ضميره، وكان هذا الصراع حين أراد “حسن” أن يعدل ترشيح تعيينه مدرسًا من البحيرة إلى الغربية، وكان قلقًا بشأن الأمر، فأخبره صديق له بأن الأمر لن يكلفه سوى عشرة جنيهات لذلك الموظف القابع بحجرة حقيرة بالدور الأرضي بمبنى الوزارة، فمقابل العشرة جنيهات يأتي بموافقة الوزير، فظل “حسن” يصارع نفسه هل يعطى هذا الموظف تلك الرشوة الزهيدة، وهنا يعود “ناصف” ليصور عبث هؤلاء الموظفين، فكيف يبيع أغلى ما يملك (ضميره) مقابل جنيهات زهيدة؟! أدهشني المبلغ الذي اختاره الكاتب مقدارًا للرشوة، فدنو قيمة الرشوة من دنو قيمة المرتشي، نعود لصراع “حسن” الذي كنت أظنه رافضًا لمبدأ الرشوة ولكن اتضح لي أن صراعه مع الخوف الذي داهمه حيال أن يقع تحت طائلة القانون، ليسأل زميله عن الوسيلة التي يتقاضى بها الموظف الرشوة ليرد صديقه: “ستجد الدرج مفتوحًا من رمسيس لسعد زغلول، أرمِ العشرة بسرعة دون أن يراك أحد “، وقد ارتجف قلب “حسن” من الموقف كله، فقد فكر أن يطلب من صديقه أن يرميه بالدرج نيابة عنه لكنه خاف أن ينعته صديقه بالجبان أو الأناني، وهنا شعر “حسن” بالإحباط فلا حل أمامه سوى هذا أو يبقى مدرسًا مغتربًا.
2 – الصراع مع المرض
الذي عبر عنه من خلال شخصية “عبد الرحمن” والد “حسن”، الذي جعله المرض قعيد الفراش لمدة عامين فيصف الكاتب حاله قائلًا: “يرقد عبد الرحمن والد حسن الذي اقترب من الثانية والسبعين على سرير المرض منذ عامين، صار جزءًا من تضاريس الفراش الذي لم يعد يراه مستويًا ألبتة.”، كما صور الكاتب معاناة أهل المريض أيضًا، وكأن الصراع مع المرض يتعدى حدود المريض ليشمل من يعوله، واتضح ذلك من معاناة الزوجة “فتحية” التي لا تعرف للراحة طعمًا، نتيجة مرض زوجها.
3 – الصراع مع الآخر
عبر الكاتب عن بعض الصراعات التي تعرض لها أبطال القصة من الآخرين، ومن مظاهر هذا النمط من الصراع، صراع “فاروق” مع جاره المخبر الذي أراد أن يفرض سطوته على سكان شارعه، وعندما رفض فاروق وزملاؤه هذا السطو بغير مبرر، توجه هذا المخبر برسالة إلى جهة ما، يتهم فيها فاروق وبعضًا من زملائه بارتكاب حماقات ضد النظام، واللافت أن تلك الجهة تحركت لرسالة مجهولة المصدر وبالفعل ألقت القبض على أحد زملاء “فاروق”، ألهذا الحد يصل العبث بمصائر الناس دون دليل، مما اضطر “فاروق” للفرار خارج مصر؛ خوفًا من ملاحقات الأمن.
ومن مظاهر هذا النوع من الصراع “العنصرية” التي يتعرض لها بعض العرب بأمريكا، ذلك الذي تعرض له “فاروق” بأمريكا على يد مديره بالعمل “ستيفن” الذي وصفه الكاتب برئيس القسم “ستيفن” الذي يكره كل ما هو عربي، يؤكد دائمًا أن العرب كائنات يجب أن تختفي من على وجه الأرض”. وقد حذره صديقه المغربي أن هذا الرجل العنصري بالحتم سيدبر له مكيدة كي يطرده من الشركة.
ومن مظاهر العنصرية أيضًا موقف “استفني” أمينة المكتبة، التي كانت تطلب منها سناء المساعدة في العثور على بعض الكتب العربية فكنت ترد عليها بحسم بغيض متعجرف، على وصف الكاتب قائلة: “إن الكتب العربية غير موجودة، ولم أسمع عن نجيب محفوظ من قبل!!” وبهذا تكون تلك الفتاة رافضة لكل ما هو عربي، مقللة من شأن واحد من أعظم الأدباء على مستوى العالم.
ومن الممارسات العنصرية التي تمارس داخل الحرم الجامعي أيضًا، تلك الملصقات المسيئة للبنات المسلمات المحجبات التي ألصقها صديق “استفني” الحميم المعروف ببغضه للعرب، وما كان من عميدة الكلية إلا أن حذرته من ممارسة العنصرية داخل جدران الجامعة، ثم أمرت عمال الكلية بأن يزيلوا تلك الملصقات، اكتفت فقط بتحذيره، وهل هذا يعد كافيًا؟، في وجهه نظري هذا التحذير لم يكن كافيًا لمثل هذا الفعل، فهذا الشاب قد أساء لزملائه بالجامعة، فكان يجب أن تطبق عليه العقوبة التي يسن عليها قانون الشغب مثلًا، فقد رأيت هذا التحذير اللفظي غير منطقي ويتنافى مع سياسة دولة أمريكا التي تحترم سيادة القانون، فماذا لو كان الموقف معكوسًا؟ وكان صاحب الواقعة عربيًا! وماذا لو كان عربيًا مسلمًا؟، بالطبع سيكون العقاب مغايرًا!
وهنا نجح الكاتب في إلقاء الضوء على ذلك الكره والبغض العميق الذي يكنه بعض الأفراد في تلك المجتمعات للمسلمين العرب؛ ليضع المتلقي في حيرة من أمره، ما الصورة التي صدرها العرب المسلمون لهؤلاء، ليصبحوا أبغض كائنات الأرض في نظرهم؟، وكأن “ناصف” هنا يجعل بعض المسلمين المتطرفين طرفًا في تشكيل تلك الصورة، بما يصدروه من فكر متشدد ومتطرف، كما يسلط الضوء على أمرٍ غاية في الغرابة، أيعقل أن يقابل هؤلاء الذين يدعون التحضر التطرف بتطرف، فما الفرق بين التطرفين؟
ومن مظاهر هذا اللون من الصراع ما تعرضت له “سناء” من اللصوص شاربي الخمر المنتشرين بجوار المحلات الكبيرة وماكينات النقود خارج المحلات، حين ذهبت مع أخيها “رضوان” إلى مول “ولمرت” بمقاطعة كولومبيا؛ لتشتري فستانًا، فأخرجت كارت الائتمان وتوجهت إلى الماكينة الموجودة داخل المول، فوجدتها لا تعمل، فقررت أن تخرج إلى الشارع وتسحب نقودًا من الماكينة القابعة بجوار المول، ولكنها تذكرت كلام أمها حول وجود لصوص وأنها بهذا ستعرض نفسها للخطر، ورغم ذلك قررت الذهاب للماكينة، واطمأنت حين وجدت فتاة بيضاء تسحب نقودًا من الماكينة، لتتفاجأ بعد دقائق أن هذه الفتاة لصة محترفة، والتي ألقى الضابط القبض عليها وأعاد لـ”سناء” نقودها.
4 – الصراع مع الزمن
عبر الكاتب عن صراع المرء مع الزمن في أكثر من موضع خلال روايته؛ وكأنه يريد أن يؤكد على فكرة أن الإنسان أسير للظروف المحيطة به، فمن الممكن أن يخسر الإنسان فرصًا ذهبية فقط لأن الظروف لم تسعفه على نيلها، وقد جذبتني فكرة رائعة أراد “ناصف” تأكيدها في بعض المواضع، وهي فكرة لا جدوى الوقت، وكأن المصالح الحكومية في بلدنا لا يعرف موظفوها من الزمن إلا دقات ساعة الانصراف، فقد عانى “حسن” ويلات الصراع مع الزمن في غير موضع من الرواية، منها حين أرسل طلبه للذهاب للبعثة في أخر لحظة، ولم يكن التقصير من البطل ولكن جاءت استمارات التقديم للمدرسة من الإدارة قبل إغلاق باب قبول الطلبات بيومين فقط، وقد أقنع زميله مدرس الرياضيات بتقديم طلبين لمدير المدرسة الذي ظن أنه سيتولى إرسال طلبيهما إلى القاهرة، ولكن بعد استيفاء الأوراق لم يقبل أن يرسل الطلبين لأن الوقت ضيق، وبالحتم سينتهي موعد التقديم قبل وصول الطلبين، فأشار عليهما بالذهاب للإدارة، والمحبط أن وكيل الإدارة رفض تسلم الطلبين وطلب منهما الذهاب للمديرية بطنطا، وهنا تبدأ الجولة الثانية من صراعه مع الزمن فالساعة حينها كانت الثانية عشرة ظهرًا والمسافة إلى طنطا ستستغرق زمنًا يتجاوز الساعة، والموظفون ساعتها سيكونون قد توقفوا عن العمل، رغم محاولات الإحباط التي تعرض لها “حسن” من زميله بأن الوقت لن يسعفه ولن يستطع تسليم الطلبات، إلا أنه قرر الذهاب لطنطا، وبالفعل وصل قبل انتهاء دوام الموظفين ولكنه تفاجأ بعدم وجود الموظف المسئول عن تسلم الطلبات، فقد ذهب لأداء صلاة الظهر فوق ما يقرب الساعتين، يبدو أنه خشع بالصلاة لدرجة أنه نسى نفسه، وتكمن المفارقة هنا أن تكون حجة هؤلاء الموظفين معدومي الضمير في هروبهم من العمل وتقصيرهم هو أداء الصلاة!
5 – الصراع مع الموروث (العادات والتقاليد)
صور “ناصف” العديد من المشاهد التي يصارع فيها أبطال روايته العادات والموروثات العقيمة أحيانًا، وتجلى هذا النوع من الصراع في ليلة زفاف “عبد الرحمن” على “فتحية” التي كانت حينها بنت الثانية عشرة، وتمثل الصراع بين إنسانية “عبد الرحمن” التي تأبى أن تقسو على تلك الفتاة التي شبهها الكاتب في هذا الموقف بالعصفورة الضعيفة المبلولة في ركن الحجرة، وضغط أهل القرية عليه في مطالبته بالخروج لهم ببقعة الدم، ليتأكدوا أن الفتاة شريفة، ليجد البطل حيلة ذكية ليُخرج نفسه وزوجته من هذا المأزق فقد طلب من عمتها أن تحضر له زغلولة ليذبحها ويلطخ بدمها القماشة ويخرجها لهم، وهنا يسلط الكاتب الضوء على واحدة من أهم القضايا وإن لم يتطرق لمعالجتها صراحة، من حصر الشرف في بقعة الدم تلك؟! فقد قدم لهم البطل دمًا كذبًا تخيلوا أنه شرف الفتاة، حقًا ما هذا العبث! كما نقل للمتلقي صورة عن المجتمع الريفي الخائض في دقائق البشر آنذاك.
6 – الصراع مع الثقافات الأخرى
يبدو أن الصراع الحضاري بين الشرق والغرب لا يقتصر على الأيدلوجية الفكرية فقط، بل العادات والتقاليد البسيطة، فها هو “حسن” يواجه عادة غريبة في نمط النظافة الشخصية التي تلزمه تلك المجتمعات، فقد تفاجأ بعدم وجود “شطاف”، ليوضح الكاتب سمة تميز المجتمع العربي وهي الحرص على الطهارة، وهنا تكمن المفارقة العجيبة.
أما عن لغة تلك الرواية فكانت أقرب إلى اللغة الثالثة التي روج لها “توفيق الحكيم”، فقد كانت لغة أدبية يجد المتلقي فيها تعبيرًا صادقًا عن مكنونات العمل، وجاء الحوار شيقًا، مؤديًا دوره الفني بشكل جيد، يرسم الشخصيات، ويلون مواقفها فيدفع الحدث نحو التنامي.
وقد ركز “ناصف” على جعل الحالات الانفعالية للشخصيات صادقة؛ مما يجعل المتلقي يتفاعل بقلبه مع انفعالات بعض الشخصيات، تحديدًا بطل روايته، الذي رسمه شخصية متزنة ملتزمة، في تعامله مع الكثير من المواقف، وكأنه يقدم للمتلقي نموذجًا يقتدي به…
واللافت للنظر أن “ناصف” عبر عن عدة قضايا شائكة بأسلوب غير مبتذل أو جارح، فتراه حريصًا على انتقاء ألفاظه؛ فلا أجد لفظًا خادشًا واحدًا بتلك الرواية، وهذا أمرٌ يحسب له في ظل هذا الهراء، كما حرص ناصف على تصوير الأماكن للمتلقي فيمثل تفاصيل المكان؛ فيأخذ القارئ برحلة يشعر خلالها بأنه جزء من أحداث الرواية، وكذلك لم يغفل البنية الزمانية بل جعل الزمن أحيانًا أحد أطراف الصراع، وقد اعتمد على آلية الاسترجاع في أغلب الأحيان ليتجول بالمتلقي في خلجات الماضي حسب ما يتطلبه السياق؛ لمناسبته لطبيعة الحدث، وجاءت أحداث الرواية منطقية الترتيب، فخرجت الحبكة متماسكة، منذ بدايتها حتى نهايتها.
وبهذا يكون البناء الفني للرواية رائعًا، يستحق كل عنصر من عناصره وقفة نقدية فاحصة؛ تبرز روعته، فقد قدم لنا الكاتب نظرة ثاقبة عن الحياة بأمريكا حلم العرب؛ ليكشف بموضوعية شديدة عن مزاياها ومساوئها بأسلوب شيق منمق.
محمد عبدالحافظ ناصف كاتب مسرحي مصري وروائي وقاص وكاتب اطفال وسيناريست ومترجم، مواليد مدينة المحلة الكبرى عام 1967، حاصل على بكالوريوس تربية – قسم اللغة الإنجليزية، ودراسات عليا في التربية المستمرة من جامعة ميرلاند في أمريكا. عضو في: اتحاد الكُتّاب المصريين، أتيليه القاهرة، دار الأدباء، نقابة المهن التمثيلية، المجلس الأعلى للثقافة، اللجنة العليا لجائزة الدولة للمبدع الصغير.. له الكثير من الأعمال المسرحية، وفي أدب الطفل، والقصة القصيرة، والرواية، إضافة إلى الأعمال النقدية والترجمة، حاصل على عدة جوائز في المسرح، والقصة القصيرة، وأدب الطفل، والدراما التليفزيونية.

كل الشكر و التقدير لموقع حانة الشعراء على نشره المقال .
إعجابLiked by 1 person
كل الشكر والتقدير أستاذ محمد
إعجابإعجاب