الْمجنونُ والْبحرُ

الْمجنونُ والْبحرُ

وهيب نديم وهبة

اللوحة: الفنان الكندي ماثيو وونغ

بصوت الإعلامية فادية نحاس

هالةُ تعشقُ النّجمَ السّاهرَ فوقَ الْبحرِ،

وتهمسُ للْمجنونِ النّائمِ على سجّادةِ 

الرّملِ بلغةٍ بيضاءَ، ناعمةٍ، بلغةِ الْموجِ:

“الْآنَ تكبرُ على بيادرِ طفولتي...

أمنحُكَ النّعاسَ حتّى شقائقَ الْوردِ…

وأتلاشى حتّى يذوبَ السّكّرُ فيكَ، 

أرتديكَ قميصًا على شفافيّةِ لحمي  

وأصنعُ لكَ جسدي دنيا عشقٍ.

أطعمُكَ الّلوزَ، الْجوزَ والسّكّرَ منْ يدي، 

والشّهدَ منْ فمي، كرمَ خمرتي. 

وحنينُ مودّتي غطاءُ نومِكَ على 

الشّاطئِ العاري.

أتعرفُ سيّدي؟ عادَتْ، سيّدي الْمجنونَ، 

كلُّ الْعصافيرِ الّتي ارْتحلَتْ، تنامُ في يدي.

وكلُّ الصّقورِ الْجارحةِ الّتي مزّقَتْ فساتينِ 

الْحبِّ والْحريّةِ… عادَتْ نادمةً… وباكيةً… 

وكلُّ الْغربانِ الّتي حفرَتْ بأصابعِ الشّيطانِ مقابرَ 

الْحبِّ والْإنسانِ، عَادَتْ حزينةً منكسرةً ومهزومةً.” 

سيّدي الْمجنونَ: 

الْغيمُ الْأسودُ لا يُمطرُ، 

والْحقدُ لا يُثمرُ نخيلًا، وجوهرًا. 

الْعشقُ طوفانٌ بلونِ الثّلجِ والْعالمِ. 

هذا الْبحرُ مملكةُ الْحيوانِ والنّباتِ.

والْحريّةُ، إنسانٌ، يا سيّدي الْمجنونَ.”

يفتحُ الْمجنونُ الْعينينِ الْمغمضتينِ 

على الرّملِ الْجافِّ وينظرُ قليلًا إلى الْأعلى 

وجهَ هالةَ منْ بينِ جميعِ وجوهِ نساءِ الْعالمِ.

حرارةُ الرّملِ السّاخنِ في الْوجنتينِ، 

ولا يقولُ!

يتركُ الْأصابعَ تستريحُ في حنانِ غابةِ 

السّاقينِ، عندَ هالةَ، ولا يقولُ!

يتركُ الْأصابعَ تذهبُ وتذهبُ حتّى منتهى 

الْخصرِ، كرمِ خمرِ الْمجنونِ، ولا يقولُ.

إنَّ خمرةَ الْبحرِ، بينَ الْموجِ والزّبدِ.

الْآنَ يهمسُ عطفًا: “هالةُ، أليسَ الْخالقُ 

أكبرَ فنّانٍ، وأفضلَ مبدعٍ، وأحلى رسّامٍ؟

رسمَ الْبحرَ صبيّةً متوحّشةً للْحريّةِ، تضربُ 

الْيابسةَ أنْ تتحرّكَ، بمطرقةِ الْموجِ العاريةِ 

منْ أسلحةِ الدّمارِ. الْيابسةُ قاسيةٌ! 

خُذيني منْ هنا.”

هالةُ: “أينَ! أينَ تهربُ بعدُ. يكفيكَ لكَ 

الْبحرُ سفينةٌ للخيالِ.”

الْمجنونُ: “والْقراصنةُ، يا هالةُ، وأسماكُ الْقرشِ 

والنّباتُ الْمميتُ الّذي يُطبقُ الْفمَ الشّرسَ على 

جسدِكِ السّمكةِ.”

هالةُ: “وما أجملَ تلكَ النّبتةَ.”

الْمجنونُ: “كامرأةٍ مرسومةٍ بريشةٍ 

ساحرةٍ.”

هالةُ: “تلكَ النّبتةُ… تغلقُ قبضةَ الْيدِ، وتلفُّ 

الذّراعَ والْخصرَ على جسدِ الْكائنِ الْحيِّ تمتصُّ دمَهُ، 

وتحيا على أنقاضِ الْموتِ.”

الْمجنونُ: “والْحريّةُ تحيا على تحطيمِ! 

تكسيرِ زجاجِ مرايا الْأقنعةِ.”

هالةُ: “تغيّرتِ الدّنيا!”

الْمجنونُ: “الرّكامُ تراثُ تقييدِ الْقيدِ 

الْموروثِ يخرجُ منْ بينِ صفحاتِ التّاريخِ 

الْعربيِّ الْمزروعِ بالْغدرِ، والْقتلِ والْخيانةِ. 

كيْ تحكمَ، كيْ تصبحَ شيئًا. اقتلْ! الْقتلُ مباحٌ، 

الْموتُ كتابٌ عربيٌّ، عقدٌ معلّقٌ في عنقِ التّاريخِ.”

هالةُ: “والْحريّةُ، سيّدي الْمجنونَ؟”

الْمجنونُ: “الْحريّةُ امرأةٌ، جاءَتْ منْ كتبِ 

التّاريخِ إلى هذا الشّرقِ… ودخلَتْ داخلَ 

زجاجةِ عطرٍ وأغلقَ الشّرقُ فتحةَ الزّجاجةِ.”

هالةُ: “سجينةٌ، سيّدي، طفلةُ الْأشواقِ، 

صغيرةٌ نامَتْ معَ النّجمِ، ذاتَ ليلةِ عاشقٍ.

كبرَ الْإنسانُ، ولمْ تكبرْ. تغيّرَ الْعالمُ، 

وما زالَتِ الْحريّةُ طفلةً صغيرةً تلعبُ معَ النّجمِ.”

الْمجنونُ: “تلعبُ بعيدًا… وتأكلُ وتشربُ بعيدًا..

وتنامُ آخرَ الّليلِ قنديلًا فوقَ عشقي، 

تخافُ رائحةَ الْعفنِ البشريِّ، 

أنْ تخنقَ آخرَ قطرةِ عطرٍ منَ الزّجاجةِ الْمغلقةِ.”

هالةُ: “سيّدي، كيفَ تسربّتْ منَ الزّجاجةِ الْمغلقةِ 

قطراتُ حريّةٍ؟”

الْمجنونُ: “هالةُ، الضّغطُ يولّدُ الْانفجارَ، 

والْحريّةُ هواءٌ يتغلغلُ في جسدِ الْإنسانِ!  

يتسرّبُ قليلًا، مثلَ الْغازِ، يحرقُ، ينفجرُ،  

يشتعلُ بسرعةِ الضّوءِ، يأتي حافيَ 

الْقدمينِ يمشي هنا على الشّاطئِ.”

ينهضُ الْمجنونُ وهالةُ ويمشيانِ 

حتّى الرّملِ الرّطبِ.

الْمجنونُ: “خذيني منْ هنا.”

هالةُ: “أينَ تهربُ بعدُ؟ الضّوءُ قادمٌ… 

ها هوَ الّليلُ يجمعُ الشّراشفَ السّوداءَ ويرحلُ.”

الْمجنونُ: “والنّهارُ منْ خلالِ ثقوبِ الضّوءِ 

يفضحُ عيونَ عيوبِ الّليلِ.”

هالةُ: “أحبُّ أنْ أحيا في ضوْءِ النّهارِ. لا 

تُسرَقُ لحظةُ حريّةٍ، وعلينا أنْ نحياها.  

نتعطّرُ بها، ولكنْ في عزِّ ضوْءِ النّهارِ.”

الْمجنونُ: “كلُّ حريّةٍ مسروقةٌ. مسلوبةٌ.”

هالةُ: “تتحوّلُ في الْقلبِ رعشةُ خوفٍ. 

برجُ الْمراقبةِ والْأبوابُ مغلقةٌ. أنْتَ سارقٌ.”

الْمجنونُ: “الْحريّةُ سوفَ تأتي ذاتَ نهارٍ… 

منَ النّجمِ الْعالي، وتلعبُ معي هنا،

على الشّاطئِ.”

يمسكُ أصابعَ هالةَ ويركضُ تمامًا بجانبِ الْماءِ، 

تلعبُ الرّيحُ. يرقصُ، يُنادي: “هالةُ، تعالي 

نذهبُ نحنُ إلى الْحريّةِ.”

هالةُ تُنادي: “الْحريّةُ لا تأتي إلينا. 

نحنُ نذهبُ إلى الْحريّةِ.”

وأصابعُ الْمجنونِ تلعبُ في الرّيحِ، 

وَتُنادي: “نحنُ نذهبُ إلى الْحريّةِ.

من «الْمجنونُ والْبحرُ» – الْحلقةُ السّادسةُ

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s