ديليسبس وعلي الراعي

ديليسبس وعلي الراعي

د. حمدي سليمان

اللوحة: الفنان الإيطالي ماريو سيروني

لقد كان الدكتور علي الراعي بعيدا عن الكيانات الحزبية، لكنه كان واعيا بطبيعة اللعبة السياسية، وكان صاحب أفكار واضحة، فقد رفض التشوهات الأيديولوجية في الماركسية والقومية والتي حولتهما إلى أيديولوجيات شمولية مستبدة؛ وحرص على تمسكه بالديموقراطية والبعد الوطني والاجتماعي والإنساني كخيارات لا تقبل المساومة جنبا إلى جنب مع الوعي الماركسي والقومي، وإيمانه العميق بالتحرر والديمقراطية، إضافة إلى إيمانه وتقديره الشديد للتاريخ النضالي للشعب المصري، وربما ذلك ما جعله يأخذ موقفا متشددا من إعادة تمثال فرديناند دليسبس إلى قاعدته القديمة في مدخل ميناء بورسعيد، حيث أعلن راية المبنى على القراءة التاريخية العميقة بكل صراحة لا لعودة التمثال الذي اسقطه الشعب في أعقاب حرب العدوان الثلاثي، وقالها بكل فخر متحديا كل التوجهات والضغوط في ذلك الوقت من منتصف ثمانينيات القرن الماضي.. (نحن لن نعتذر عن تاريخنا)، وفي ذلك نموذجا للمثقف باعتباره من يمتلك القدرة على اتخاذ مواقف استنادا إلى قاعدة معرفية واعية لطبيعة القضية والسياقات التاريخية والسياسية والبعد النفسي المرتبط بها، وقد أثيرت نفس القضية مرة أخرى في عام 2020، ولاقت رفضا شعبيا واسعا، خاصة من أبناء بورسعيد، وأشعلت مواقع التواصل الاجتماعي، وهو ما استدعى تدخل الأجهزة السيادية لمعالجة الموضوع وأمتصاص غضب الجماهير، وصدر قرار بنقل التمثال من بورسعيد إلى متحف هيئة قناة السويس الجديد بالإسماعيلية، وفي ذلك انتصار لموقف الراعي الذي أتخذه منذ أكثر من ثلاثين عاما، فقد كانت رؤاه الفكرية قريبة إلى موهبته، صريحة وواضحة، وفي نفس الوقت تضجر من التعصب والتحيز الفج، والتصنيف، حيث اختط لنفسه طريقا وسطا بين اليمين واليسار في السياسة والثقافة معا، فلم يتعصب لأي الاتجاهين واختار من كل منهما خير ما فيه، وما يخدم الصالح العام، وان كان لم يخف إنحيازه للأفكار والمبادئ الاشتراكية ودفاعه عن قضايا العدالة الاجتماعية والحريات والثوابت الوطنية، مؤكدا على أن ثمة فارق كبير بين مثقف السلطة وفقيه السلطان الفاسد وبين المثقف الفعّال الذي يشارك في الإصلاح، وهو ما جعله نموذجا لتلك الجدلية، فهو من الكتاب القلائل الذين رضي عنهم اليمين والوسط واليسار ورضي عنهم القديم والحديث ومن هم بين بين، وهذا ما جعل البعض يتوقف أمام شخصيته وما تثيره من تساؤلات حول ملكة الإبداع النقدي عنده، والقيم الإنسانية والفنية التى وجهته منذ بداياته المبكرة، تلك التي تضيء إنتاجه وشخصيته، على نحو ما يتجلى بحدة فى معظم كتاباته ومواقفة طوال ما يقرب من  نصف قرن.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s