الأنفس الشح

الأنفس الشح

أيمن جبر 

اللوحة: الفنان الإسباني أوريليو أرتيتا

ينفرد القرآن الكريم بتعبيرات ومصطلحات؛ لا يمكن وصف قدر الإبداع فيها. ومنها الآية الكريمة: وَأُحْضِرَتِ الْأَنفُسُ الشُّحَّيصف تلك اللحظة التي يساوم الطرفان؛ اللذان جمعهما رباط مقدس، وغالبا ما يكون الشح من الرجل، ونادرا ما يكون من المرأة.
الشح الذي يبرز من بوتقة الأنا يكون مفاجأة للجميع! فهؤلاء كانوا عنوانا للحب والود والإيثار!
كيف حدث هذا؟ والشح يبرز مع قرار الفراق ولحظة الفراق وواقع الفراق، يكون مثل دود الأرض، جرثومة كامنة، كما أن دود الأرض يحيا مع موت الإنسان ومغادرة الروح؛ فدودة الشح تحيا وتنبت حين تسقط عليها أمطار البعاد والشقاق والفرقة، الحالة الأولى موت من بعد حياة، والثانية فراق وشقاق وبعاد وخصام وتحامل وضغينة؛ من بعد حب وود ورحم ورباط مقدس.
الفراق امتحان صعب، هل تدرون ما هي صعوبته؟ أنه يُبرز الأصيل من الخسيس؛ فالأصيل يحب ويحترم ويشكر ويمدح ويقترب؛ في السراء والضراء، في العز والذل، في الحاجة والاستغناء، أما الخسيس؛ يقترب لغنيمة ومطمع ومصلحة، ويبتعد وينفر ويكشر عن نفوره وخسيس معدنه؛ الامتحان في تلك اللحظة
حين يولى الرجل ظهره لزوجته، أو تولي الزوجة ظهرها لزوجها، وحين يولي المنصب ظهره لصاحب الجاه، وحين ينفصل الشريكان في التجارة، الامتحان حين حدوث الانفصال والفراق، وقتها تتنازع وتتحدث الأنا، الأنا الأصيلة، والأنا الخسيسة، ونحن الذين نختار الأصالة والخسة، فهما الامتحان، هناك من يجيب بمداد الأصالة؛ وهي ثقيلة ومُكلفة ونزيهة، وطيبة الرائحة ومديدة السيرة، وهناك من يجيب بمداد الخسة؛ وهي سهلة ومنطلقة ومنفلتة، ونتنة الرائحة والسيرة.

***

يظن الرجل أنه لا بد أن يمتلئ بئر قلبه بمشاعر الحب أولا، ثم يغرف من هذا البئر الممتلئ، فتنفك عقدة لسانه؛ فيبث منه ويُفضي إلى زوجته، وأن مع الإنفاق من سنين الحياة الزوجية.. يخف أو يجف البئر، فيتوقف عن التعبئة منه، ويتوقف عن ري الحياة الزوجية العاطفية.

في اعتقادي أن هذا ليس دقيقا، بل بعيد عن الحقيقة، فالمشاعر لا تكون مشتعلة أو حاضرة في كل وقت، وانما تستدعى وتمرن على الحضور الرشيق، عند الزوج والزوجة، وينطبق هذا على الزوج أكثر؛ يجب أن يحرص على منح كلمات الحب والتقدير وربما التقديس لزوجته، حتى إن كان بَوْحه يتجاوز كثيرا قدر ما يُكِنه من مشاعر لزوجته، فالمشاعر ليست بئرا يمتلئ كي ينفق منه، ولكنها بذرة في القلب، بذرة تحتاج رعاية لتظل حية ولتظل تنمو وتكبر، أيضا تحتاج رعاية وممارسة؛ كي تخرج من مخبأ القلب إلى الحبيب، تحتاج المشاعر أيضا؛ أن يستهلك منها، فهي مثل النبات الذي لا بد أن تقطف منه ليعطي المزيد، وإن توقفت عن القطف يذبل، ومثل العضلة التي لا بد أن تتحرك دوما وإلا يبست، فمن يسهى عن هذه القاعدة؛ ينكمش حبه وتتخشب عاطفته، فيتوهم أن مشاعره تغيرت أو بهتت أو ماتت، ولكن المشاعر لا تموت أبدا، فقط تهمل وتترك مهانة في مخبأ القلب.

في علم النفس يوصى باختيار الكلمات التي تتكرر على اللسان، أن تنتقى بدقة، الكلمات الإيجابية وليست السلبية، لأنها تخرج منك وتؤثر فيك وتقوم ببرمجتك نفسيا أو عصبيا، مثل كلمات الشجاعة لمن يريد أن يتحلى بها، أو كلمات الثقة بالنفس؛ فمن لديه بذرة من الشجاعة أو الثقة؛ ويريد أن تنمو وتصبح واقعا وأصلا فيه؛ يوصي علماء النفس بتكرار كلمات الثقة أو الشجاعة دوما، هذا كي تتعزز وتصبح في آخر المطاف حقيقة.

هنا تحدث عملية تبادلية، ينطق كلمات الثقة فترتد لوجدانه وعقله الباطن، وتغذي روحه، وتخرج ثانية على لسانه، فتكون أقوى من المرة الأولى، وهكذا تستمر العلاقة التبادلية والعطائية، حتى يصبح كما أراد متعمدا، يصبح واثقا من نفسه أو شجاعا، هذا تحت شرط أن تتوفر الإرادة لنيلها. هذه النظرية تنطبق على العلاقة بين الزوج وزوجته.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s