حمدي سليمان
اللوحة: الفنان الأميركي يعقوب لورانس
ظل الدكتور علي الراعي مواصلاً اشتغاله بتأصيل وتنظير المسرح والرواية والنقد والعمل الفكري، مدافعا عن قيم الجدية والتأصيل والاستقلال الفكري والنبل، فقد غدا فى زمانه مؤسسة أدبية وفنية مستقلة ومستقرة، تشبه تلك المؤسسات الكبرى التى نقرأ عنها، وأن كنا لا نعرف ما يجرى بداخلها إلا أنها مع ذلك قائمة شامخة، ليست بالمؤسسة الحكومية التى تستمد قوتها من الاعتراف الرسمي فحسب بل كان مؤسسة شعبية أيضا تحدث عنها الأدباء والفنانين والناس بمحض الاختيار. لقد امتلك الراعي روح مواطن فائق الحس، وعقل كاتب مفعم بالبعد الجمالي، وهو ما جعل البعض يعدون كتاباته تجسيد حي للدعوة التى أطلقها أحمد بهاء الدين عندما طالب النقاد المتعاملين مع الإبداع بمراعاة الرحمة الثقافية، التى تقوم فلسفتها على تجنب التعالى على الناس، بتقديم ما لا يفهموه فيجعلهم يشعرون بالدونية والحيرة والغربة عما يشاهدون، فمن واجب المثقف المحظوظ أن يترفق بالناس وأن يأخذ بيدهم رويدا رويدا إلى عوالم الثقافة والفنون، وألا يستعرض عضلاته الثقافية فينصرف الناس عما يقدمه، وهذا بالضبط ما فعله الراعي عبر تعامله مع النقد بوصفه ممارسة ثقافية لا يمكن أن تتم بمعزل عن الناس، ورأى الكتابة من المهام التبشيرية التى تسعى للتبشير بالجمال كما تجسده القيم الإبداعية، وعبر عن الأفكار والنظريات النقدية التى تبدو معقدة أمام القارئ العام بعبارات بسيطة وعذبة لها سلطة النفاذ إلى القلوب والعقول، وأجمل ما فى كتاباته أن صاحبها امتلك الوعى بالنظريات، لكن هذا الوعى لم يكن مضطربا، ليشوش رؤيته بحيث تتحول كتاباته إلى متاهة أو كتل خرسانية ينفر القارئ من التعامل معها، لذا كان يفضل التعامل مع النقد كأداة اتصال، وهو ما فعله من خلال مقالاته فى مجلة المصور وفي جريدة الأهرام ، تلك المقالات التي مثلت نافذة لتسليط الضوء على الأعمال الإبداعية وتضىء عوالمها ليسهل للقراء مهمة التواصل معها وتأمل طبقاتها. كما كانت نبراسا للمبدعين تمثيلا وكتابة واخراجا وتذوقا وكيف ” لا ” وقد انتقلت الكلمة عبر الأهرام إلى مئات الألاف من عشاق المسرح وعشاق الكاتب الملتزم الصادق المدقق والواعى، الذي كان يؤكد على أن المهمة الرئيسية التى يختارها الناقد الذى يكتب فى الصحف هى أن يؤدى دورا تنويريا، خاصة فى مجتمعاتنا التى تشكو من الأمية الثقافية، حيث تكون المسئولية مضاعفة لأن دور الناقد يتم اختزاله فى الوساطة بين مبدع النص ومستهلكه، لذا عليه أن يكتب بشىء من الرفق بالمبدع وبالقارئ، فقد تكون الحرفة والعلم مكتسبات الخبرة وثمارها، لكن المحبة طبيعة قلب. هنا تحديدا يكمن الفرق بين كاتب عظيم وكاتب آخر عظيم، يقول الراعي في حوار مع فاروق شوشه: “أنا أعتقد أن الإبداع هو نتيجة حب، حب للإبداع وحب للناس، كذلك النقد أيضا نتيجة حب، حب للعمل الذي يتعرض له الناقد، وحب وشعور بالامتنان؛ امتنان أشعر به أنا شخصيا لكل من كلف نفسه عناء الكتابة وحاول أن يوصلها للناس”.