اللوحة: الفنان الإيطالي جياني سترينو
أدركتُ أنه يشغل حيزًا من الفراغ لا يتجاوز مترين مربعين، كما علمت أنه يخفّض من أنفاسه التي يستنشقها إلى الحد الأدنى الذي يتحمله بشر للبقاء على قيد الحياة، أزعم أنني راجعته في سلوكه هذا، فردّ: أعشق حد الكفاف، أراه مقياسًا واضحًا لوجودي.
فسألته لتجنب الخوض في مسألة قتلناها من قبل بحثًا: أتعرف أنني رأيت زوجتك بالأمس تشتري جميع معلّبات “النكد”، التي تتراص على أرفف “الماركت”!
قد سمعتها تجادل البائعة في شراء الكمية الموجودة كلها، وقد رفضت الفتاة ذلك بمبرر أن للجميع الحق في شراء نفس الصنف ولا يحق لمستهلك واحد أن يستحوذ على جميع الموجود!
ثم الفتت إليّ كأنما تستنجد بي لتأييد رأيها، تشاغلت بالعبث بعبوات البن بحثًا عن نوعي المفضل من “الوسط المحوّج”، فلم تجد البائعة سوى أن ترضخ لطلب المرأة، أزعم أني لمحت ابتسامة رضاء تمتزج بنصر على وجه قرينتك، وقد خرجتْ وخلفها ينساب لحن موسيقي زاعق نحاسي الإيقاع، أزعم أنني سمعته كثيرًا في الأفلام الحربية القديمة.
قلت له ذلك ليس من باب الوقيعة بينهما، لكن كحادثة عرضية صادفتني ظهيرة اليوم أردت أن أحكيها له، فلمّا أنهيت حديثي، مطّ شفتيه وقال: الأيام القادمة سوداء، من الأفضل أن يحتفظ المرء بمخزون يحتاط به للمستقبل، ثم التفتَ إليّ بجذعه وأكمل والأسى يبدو على وجهه: يُحزنني يا صديق أنك وحدك، أن رصيدك من ذلك الصنف صفر، لك الله ثم لوّح بيده وانصرف.
العبور للجهة الأخرى
قلت له: لقد آمنت يا مولانا أنني كبرت، أصبحت على أعتاب الشيخوخة إن لكم أكن قد دخلتها بالفعل، ستدركَ أنت أيضًا ذلك حين تقف على الرصيف كي تعبر الطريق، تنتظر أن تبطئ السيارات أو تتباعد المسافات بينها. حين يأتيك اتصال هاتفي يستمر لفترة، فتسمع الطرف الآخر يتحدث إليك دون أن تعي كلمة واحدة، حين تضجر سريعًا وتختنق من الجدال، تميل للهدوء، تعاف نفسك ما كنت تجري خلفه من قبل.
- ألا تصدقني! حسنًا منذ ساعة كنت أسير بشارع “البوسطة”، أبتغي قضاء حاجة ما، فلمّا انتهيت منها، أردت عبور الشارع للعودة من حيث أتيت، لكنني خشيت المجازفة، فقد تملّكتني رعدة سرت بجسدي وأنا أرقب السيارات والناس من حولي. لعلي استغرقت قرابة عشر دقائق أنتظر المرور، حتى صعب حالي على سائق سيارة أجرة فتوقف بنهر الطريق وحجب عني هنيهة ما كنت أخشاه، ثم أومأ إليّ، فمضيت من أمامه إلى الجهة الأخرى، لم أنس أن أهز رأسي إليه شاكرًا، فبادلني تحيتي بأخرى من عينين تحملان أسى غير خافِ على مثلي.