حنان عبد القادر
تتألف المجموعة القصصية «حالات أخرى للغياب» للقاص المصري محمد محمد نصر من عشر قصص، تسع منها يستعرض فيها الكاتب رؤيته لحالات الغياب كما يراها، محاولا أن يسبر أغوار أبطالها بخبرته في الحياة، ومعايشته الواقعية لشخوصها، والعاشرة عنونها بـ «حكايات غائبة«، ضمت أربع حكايات – يلعب فيها على الموروث القصصي الشعبي – مسقطا إياها على المجتمع، ورامزا بها لأحداث عاينها، ومحدثات عاناها.
منذ الإهداء تبدو انكسارات الروح جلية، ووجع الغياب واضحا؛ فعبارة المفتتح تحمل شحنة عالية من الآلام وقسوة الاغتراب:«أيها الغائبون، لماذا حضوركم لدي بكل هذه القسوة؟ ربما لأنني منكم.. إيه أيها الغرباء.. طوبى لكم» هكذا افتتح أوجاع الغرباء الغائبين في مجموعته، وربما أوجاع غيابه أيضا، وقد أحسن الكاتب اختيار عنوان المجموعة التي امتازت بوحدة الروح فيما بينها، حيث جمعها الغياب المشترك على اختلاف مسمياته واتفاق نتائجه.
فإن كان بطل قصة «انتظار» يعاني من غياب القدوة التي يتبعها غياب العقل الواعي اللازم لاختيار الطريق؛ فصار تابعا أمينا لسيد يردد قوله وفكره كالببغاء، ولا يستطيع بذاته أن يكون متبوعا، حيث أجبره النظام المعرفي المسيطر على تغييب فكره فصار إمعة وصدى لصوت غير ذاته، ويبدو أن للكاتب تجربة صوفية ما، خاضها في وقت من الأوقات، وخرج منها بقناعات خاصة نراها جلية هنا، تتبلور في جملة النهاية التي يقول فيها: «حين مات صاحب العمامة، ظل تابعه حبيسا في بيته ينتظر من…» تاركا للقارئ إتمام الحدث بما يريد.
نجد بطلة قصته: «ربما يعود» قد توقفت عند طموح واحد، وغاب عقلها عن الحاضر بما يحمل لها من ألم لا يحتمله وعيها، فاختارت غيابا دائما تنتظر فيه غيابا آخر ربما يعود منه الحبيب الذي تركها نهبة الانتظار، وقد توقفت حياتها عند تلك النقطة، كل حلمها فيها أن يعود هذا الحبيب، وهي لا تدري أن ثمة غياب أكثر تغولا قد اغتاله منها، فتظل في انتظار من لا يأتي، وهذا الحبيب – الابن – الذي تنتظره، غاب ولن يعود.. وعودته هنا ليست العودة المادية المتعارف عليها، إنما العودة المعنوية بكل ما تحمل من دلالات، حيث يفاجئنا الكاتب بحضور هذا الغائب في الحدث، لكنه حضور مغيب إذ لا تراه الأم – الحبيبة – ولا يستطيعه الابن – الحبيب – فكلاهما يعانيه نفسيا وللأبد، وكأنه هنا يجسد الأمل المستحيل الذي نعيش به، والمستقبل الذي نظل ننتظره حتى تجف حياتنا، والغد الذي نتمنى أن يشرق في سمواتنا بلا جدوى، فهو غائب ولن يعود، وإن أتى يكون أوان الفرح قد فات، والعمر قد ولى، فلا فائدة منه الآن، كذا يرسم لنا صورة الابن – الحبيب – الذي أكله الغياب الأبدي فلا يستطيع منه عودة؛ لأنه غياب عن الروح يفرضه واقع وحشي، يأكل ما تبقى من إنسانيتنا.
وفي «القفص».. يعرض الكاتب نوعا من الغياب آخر هو الانسحاب من الحاضر، فحين يقرر البطل الخروج من غيابه الذي طال لسنوات، يخرج ليختار غيابا أشد قسوة، فهو المسجون بلا قضبان في مجتمع اغتال إنسانيته، فلا ضير إذن من اختيار القضبان التي تناسبه، لذا، نجده يؤثر العزلة عن المجتمع المحيط، بما فيه من قهر نفسي، فيصنع لنفسه قفصا أشبه بسجن ربما انتهكت فيه إنسانيته بسبب الرجل صاحب الصورة والموكب المهيب، والذي ظلت صورته مصدر فزعه وانصرافه عن الحياة التي يسيطر عليها ذلك الرجل، ولا يريحه سوى المكوث في القفص، يعيش ويأكل كما الحيوان، لايعبأ بمن حوله، فالوجود خلف قضبانه أفضل من وجوده في سجن الحياة، بينما تعاني الزوجة غيابا آخر .. غياب العائل وراعي البيت والزوج الذي يظلل أسرتها ويؤنس وحدتها، ويفيء بالدفء على جليد حناياها، أما ما يؤخذ على تلك القصة، مافيها من عنوان دال وبداية دالة على مضمونها، وفكرة مكررة قديمة يشفع للكاتب فيها الرمز الذي أراده منها.
وفي قصته «وطء» تصوير لغيابين .. غياب للتفاؤل بالحياة لدى البطل الذي لايرى في الكون إلا ما يبعث على الهم والتشاؤم، بينما لدى البطلة غياب للأمل رغم رؤيتها الرومانسية الحالمة لماحولها، فبينما ترى لون الغروب ذهبا، يراه دما، وترى أشعتها الذهبية ملك لهما يراها خيوطا دموية لا تصيب إلاه، ويعودان بحسرة مشتركة، حسرتها لحتمية العودة دون أن تشبع نهمها بالألفة المتوقعة بينها وبين حبيب جمعتهما لحظة رومانسية، وحسرته لما يرى من تردي حاله وحال الناس حد اليأس.
وفي «محمد الصادق»، كان الغياب الأقوى لتلك الفتاة التي لفتت بفتنتها كل من رآها، في حين تخلت تلك الفتنة عن العقل الذي غاب في بحث مستمر عن رجل ذهب ولم يعد، ومازالت تبحث عنه في وجوه تشبهه، وهي في الحقيقة إنما تبحث عن الصدق فيهم، عن رجل إذا تحدث لا يكذب لكنها في النهاية تكتشف في كل منهم جانبا كاذبا فتنصرف إلى آخر، وتظل تبحث في صدق عن مبتغاها علها تجده، لكنه يبدو غياب مؤكد.
أما «ألم جديد».. غياب آخر عن الواقع وعن الذات يعيشه أديب يتمنى أن يجد حافزا ليخرج ما يراه في روحه أكبر من الكلمات، لكنه في النهاية لا يرى نفسه إلا معاقرا لآلامه وانكساراته غير قادر على الولوج إلى لحظات السعادة لأنها قصيرة شحيحة، فالحزن أكبر من السعادة في الحياة لأنها لا تحمل إلا آلاما متعاقبة.
وفي: «مسافة بعيدة هي».. يتجلى غياب الحب والمحب والحياة الهادئة، عن فتاة كل ذنبها إعاقتها، فهي تحب ولا تستطيع أن تحصل على حبيبها أو تلفت ناظره إليها .. وفي حين تتمناه، يهرب هو بكل طاقاته من محيطها، ويقتات الغياب على روحها يوما بعد يوم.
وفي «مناظر شتى لصورة واحدة».. نجد صورة انكسار الأرواح ومعاناتها وآلامها، رغم اختلاف أصحابها، فبائع النايات محمل بهمومه ومتاعبه، والمثقف االذي آثر بياته وغيابه عن العالم بين كتبه، محمل بمخاوفه ومشاكله، والناس في المجتمع كل يحمل أوجاعه، حتى البحر لم يسلم من انكسار وألم.
اما في القصة التي تحمل اسم المجموعة:«حالات أخرى للغياب»، فالغياب فيها مشترك.. غياب يصنعه الفقر والحاجة .. حيث لا كرامة ولا إنسانية ولا تحقق للذات، وحيث ضغط متتال للحاجات والرغبات الملحة التي نغيّبها طويلا لكنها ذات ضعف ربما تدفعنا لنغيب عن ذواتنا وفطنتنا فنهوي في الزلل، وربما نجبر آخرين على غياب اضطراري لا ذنب لهم فيه، فالبطل – عامل البلدية البسيط الذي يقطن بيتا لبنيا مهدما – نجده رغم فقره الشديد يتمتع بطيب ورهافة تدفعه أن يشارك الحيوان طعامه، ويسعد الفقيرة الصغيرة كلما أتته بقطعة نقود فضية، بينما تمنحه ما تملك من حنان في قبلة بريئة تضعها على شفتيه وتمضي.
كلاهما يفتقد التقدير والعطف والإحساس بأنه إنسان له في رقبة المجتمع حقوق الإنسانية، كلاهما يتضور فقرا، ولما لم يجدا بدا من أن يتبادلا عطفا، دخلا في غياب لاعودة منه، فهو شاب له حاجات منعه الفقر من إشباعها، واضطره العوز لسجرها حتى صار في منتصف العمر، لكنها ذات قسوة، تآزرت مع الشيطان لتوقع براءة الطفلة في غياب أبدي دون جريرة.
وفي «حكايات غائبة» البطل مشترك هو الملك، وشخصياتها من الحكايات الشعبية: شهرزاد ومسرور السياف، ومعروف الإسكافي، والأمير عز، وربما تخير الكاتب لها عنوانا جامعا «حكايات غائبة» لغياب دلالاتها والمقروء بين سطورها عن المقصودين بها، ورغم شهرة أشخاصها، وتواجدهم في الذهن الجمعي – فلا يخفى على أحد ماقالت شهرزاد للملك، ولا هوية مسرور السياف، أو قصة معروف الاسكافي – إلا أن الكاتب يقدمها بإسقاطات جديدة، في محاولة لقراءة المسكوت عنه في مجتمعه، أو ماغاب قصدا عن الوعي الجمعي لأولي الأمر.
فالملك في حكاية شهرزاد، لا ترضيه الحقيقة مجردة، ولا الكذب المنمق، فيرفض حكاية شهرزاد الأولى التي نقلت له الواقع بوجهه، ولا يأتنس بحكاية شهرزاد الثانية التي جملت له المأساة، وفسرت المعاناة تفسيرا باعثا على الراحة، لكنه لا يرضيه تعاسة الناس ولا سعادتهم، بل يريدهم في تقلب دائم على جمر، لا إلى سعادة ولا إلى شقاء، ولا يسعده إلا ما يأكل في دمه من حب التجسس والتلصص على عباد الله، فيكون القتل مصير الشهرزادين بعدما يحظى بالمكانة كبير البصاصين.
وفي حكاية مسرور السياف، نجد الملك يصطفيه ويقربه، ويعطيه سره وينصبه سيافا على رقاب العباد في مقابل قطع لسانه، لكن خطأ الملك الوحيد كان تعليم مسرور القراءة والكتابة، فلم يحسب أن مسرور حامل أسراره سيكشف ستره ذات سكرة للملأ، لذا، رأى من الأسلم أن يختارمن هو خاوي الرأس مبتور اللسان، فانتقى من سوق النخاسة فرحان، ونصبه سيافا ذا شان، وأمره أن يشرف سيفه برأس مسرور، لتعيش البلاد في أمن وحبور.
فلا يكفي أن نخرس الناس حتى نأمن مكرهم، لكن الأولى أن نفرغ العقول من كل شيء، ثم نبتر الألسنة؛ ليكونوا تُبَّعا لاخوف من اقتصاصهم لأنفسهم ذات صحوة ولا بوحهم بالسر الأعظم.
وحكاية مسرور السياف فكرتها متوقعة معروفة، حيث للتعليم والثقافة أثرها في بناء العقل، وللتجهيل والتعتيم آثار يريدها الدكتاتوريون في كل مصر وعصر.
وفي قصة معروف الإسكافي، يضرب الكاتب على مفهوم قلب الحق باطل والباطل حق من أهل السلطة، وإلصاقهم التهم بالبسطاء، ويبدو أن الكاتب قد تأثر فيها بخبر صحافي كان قد نشر في الجرائد يحكي عن رجل من سذاجته ظن أنه يستطيع الوصول بمظلمته للرئيس، فترقب ركبه واندفع تجاهه واضعا يده في جيبه ليخرج المظلمة، فظن الحرس الخاص أنه إرهابي سيطلق الرصاص على صاحب العزة؛ فأفرغوا رصاصاتهم في جسده، وأعلنوا أنه تم إنقاذ الرئيس من مؤامرة إرهابية كادت تودي بحياته.
وكذا حكاية الأمير عز، نجد الإسقاط فيها مفضوح الدلالة لا يخفى على متابع، فالكاتب يبصرنا بما صنعه أحمد عز من احتكار ومكر احتال به حتى يصل لمبتغاه، ولم يدفع ثمن ذلك إلا البسطاء.
وفي العموم، حكايات غائبة فيها اجتهاد للكاتب، حاول من خلال أحداثها اختيار الرمز والدلالة، لكنها كانت تحتاج منه لمزيد من العناية في الحبكة والعرض.
والمتتبع لدلالات المجموعة، يجد النقد السياسي الاجتماعي حاضرا بقوة، والتمثيل لغيابات الرجل والمرأة على حد سواء، والتمثل بالألفاظ الدالة على الانسحاب أو الغياب، واستخدام الصور والأخيلة التي تخدم الفكر وتعمقه لدى القارئ.
ولا أملك في النهاية إلا أن أحيي لغة الكاتب، وبعده عن الأخطاء اللغوية التي باتت تتعب أرواحنا، وترهق أذهاننا في الآونة الأخيرة، وأتمنى أن أجد في عمله المقبل ما هو أرقى وأفضل مما قدم في تلك المجموعة، فهو يتمتع بموهبة قصصية بارعة، وفكر متألق، ووعي ثاقب تحميه لغة أنيقة.