اللوحة: الفنان المصرى عبدالرازق عكاشة
أظن أن الساعة لم تكن تجاوزت التاسعة مساءً، فأكّد “عوف”، على حديثي بقوله: هو كذلك.
فقلت: بالفعل أنت كنت معي حينما وقعت الحادثة!
فهز رأسه كأنما يعزز كلامي، فاسترسلت قائًلا: لست أدري أي أسباب دفعت الفقيد للتصرف هكذا. كنا نجلس معًا في نفس المكان، على هذه الطاولة، أمامي بالضبط. نتسامر، نلهو بقليل من لغو الكلام، نضحك بشدة لطرفة عادية يقولها أحدنا، فنخفف من توترنا، حين قال: موعد المغادرة الآن واجبة، نهض، فوقفنا نودعه، صحبناه حتى باب المصعد.
توقفت هنيهة، التفت إلى عوف، قلت: أما زلت تتذكر؟
فقال بضجر بدا على ملامح وجهه: الحادثة بالأمس، كنت أحد شهودها، فكيف أنسى؟
فازدردتُ بعض ريقي الجاف، أكملت: حذرناه مغبة الاندفاع وركوب مثل هذه المصاعد، أن كثير منها لا يعمل بكفاءة.
فتنهّد الصديق والتقطْ خيط الحديث، أكمل: للسن أحكام، هو مثلنا لم يعد بقادر على صعود درجات السلم، ثم تأفف ونفخ، قال: لمَ جُعلت المصاعد إذن!
ربّت على كتفه، قلت: في بلدنا هذه، لكل تقنية حديثة وجهي استخدام، التيسير على الناس، اصطحابهم بسرعة للآخرة. فندّت عن محدّثي ضحكة على المفارقة، وأفلتت كلمة من بين أسنانه: صحيح والله.
فأكملتُ: غير أن الراحل تخلّى عن حذره وجميعًا يقع في نفس الغلطة.
فأكمل عوف: نعم، رأيته وأدركت خطأه، لقد فتح باب المصعد مرة واحدة دون أن يتريث، لم يعلم أن الخلل قائم، البئر على اتساعه غارق في ظلام، زلّت قدمه، بثقل وزنه الكبير كاد أن يهوى، لكنه تماسك بشدة بمقبض الباب، ثم تسلّق جدار البئر من الداخل، المصعد يرتفع إليه ليفتك به، كموت يلاحق ضحيته.
قلت مقاطعًا: المشهد كله عبث، لقد أفلتَ في الثانية الأخيرة من هلاك محقّق، ألقى بجسده خارج سطح المصعد، ثم قفز في حركة خاطفة ولست أدري من أين واتته هذه الشجاعة أو تلك المرونة الرياضية التي لا تتأتى إلاّ لشاب دوام على ممارسة الرياضة!.
تلك المرة قاطعني صديقي وهو يضع يده على عينيه كأنما يخفي رؤية مرعبة أن تمر أمامه، قال: فرّ من الموت لآخر، فحين قفز في الناحية الأخرى من المصعد، أقبل عليه بفرحة غامرة قطار، اندفع من العدم والعتمة، لم يمهل الضحية، فلم يتألم، أو يصرخ، نهاية بشعة.
فصرخ: لكنها سريعة، ثم هدأ بنفس السرعة وقال: لعله لم يشعر بشيْ.
عندما أنهيتُ آخر رشفة من قهوتي، قلت هامسًا: أكان يستحق هذه الخاتمة؟
لملم صديقي مفاتيحه، هاتفه، بقايا عملات معدنية كانت متناثرة على الترابيزة، قال: من يختار خاتمته؟
ودّعته حتى باب المصعد من جديد، قلت له: الحذر واجب يا صديق.
فضحك، قال: سأهبط على السلم، برشاقة غريبة قفز في الظلام، وقفت أسمع وقع خطواته النشطة، بينما من بعيد جدًا تعوي صافرة قطار قادم.