ظلال في الظلام 

ظلال في الظلام 

خالد جهاد

اللوحة: الفنان الأميركي إدوارد هوبر

تتطاير الأحلام كشظايا بكماء تعيش داخل فقاعةٍ من عطر.. تنظر بدهشةٍ لوجه السماء ولا ترى لصورتها أثراً على مرآته.. فتخلع كنزتها لتمسحها بخوف.. تصرخ أين أنا؟ أين ملامحي؟ فأطمئنها وأبحث معها عن طفولتي التي كانت تلوح للطيور، تلهو مع القطط وتغفو تحت أشجار الزيتون، أتساءل عن الألوان التي كانت تغلف ضحكتي، وحكايتي التي كتبت سطورها على رمالٍ لا تنساب من بين أصابعي لكنها تدثرني كل ليلة ٍفي غياب القمر..

أصبحت الآن وحيداً، أصبحت الآن أنا، بلا رفيقٍ أو حبيبة، أطارد الشمس في وضح النهار وألاحق الظلال المختبئة في عباءة الليل، أصطادها ظلاً تلو الآخر وأودعها في زنزانةٍ فاخرةٍ داخل قلبي، يرشو النزلاء فيها السجان كي يطلقهم، وأغض النظر عنهم وأراقب الهروب والرشوة بهدوءٍ ولا أدين كليهما، أتعامى عن كل ما أرى وأخفي وجعي خلف قناعٍ من البلادة، فلا شيء يدهشني بعد أن جف صوتي كصحراءٍ من الطين المتشقق على مد البصر، تقفز صور الراحلين أمام عيني.. وتتطاير كالأوراقٍ التي نظمت عليها قصائدي إليهم دون أن أخبرهم، لأستحضرهم كلما اشتقت إليهم، ولأشم رائحتهم وكأني في أحضانهم دون أن أجرح كبريائي في البقاء معهم، ودون أن أهبهم مالا يريدونه ولا يستحقونه..

أقف في صمتٍ تحت أجنحة العتمة، أتردد في العبور بين قارات الخوف والندم، أتساءل لم لا نعتبر من الماضي فنتألم ولا نتعلم وكأننا نهوى العذاب.. نبحث عن سعادتنا حيث فقدناها، نردد نفس الأغنيات، نقصد ذات العناوين التي أوغلت في جرحنا ونثرت فيه ملح الدموع، ونطرق أبواب بيوتٍ هجرها أصحابها، لنعود أدراجنا وننام على وسادةٍ من الحزن الشهي الذي يداعب أحلاماً لن تعود، ننسى الزمن وأنفسنا، نتوه بين أرقامٍ تؤكدها الأوراق وبين أخرىً تسكن الأعماق، في غربةٍ لا نحكيها لبشر لكنها باتت تحكمنا جميعاً، حيث نشعر بالوحدة لكننا نفضلها، تغزونا من الداخل دون أن نقاومها، ولا نرتاح معها أو بدونها، نتمنى الحب مع أننا نخافه، ونحلم بتلك اللمسة الحانية على كتفنا.. تهمس أنا معك مع (أنني لست معي)، أنا معك رغم الملل رغم الشك رغم التيه، رغم كل الضباب الذي يحيط بنا، رغم الخوف الذي نكبر على رائحته ونتنسمه أين ما حللنا..

فتبدو الحياة كلغزٍ كبير لا حل له سوى مصادقته والتعود عليه، ليغدو جزءًا منا ننصهر فيه حتى لا نشعر بقسوته علينا، ولا ببصمات أصابعه على أفئدتنا وملامحنا التي تبحث عن توأمها في وجوه العابرين التي يكسوها القلق، ولفحتها حرارة السنوات المحترقة في عيون الحالمين، أولئك الذين تركوا حقائبهم المحملة بذكرياتهم في عهدة من هجروهم وأصبحوا بدونهم عراةً منسيين، يتذوقون التفاصيل للمرة الأولى ويستعيدون ذاكرتهم بتشكيلها من جديد على ضفاف الحلم الذي لا ينتهي باستيقاظ أصحابه منه بل يلتصق بهم كظلٍ حتى في الظلام..

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s