د. حمدي سليمان
اللوحة: الفنان المصري حسين بيكار
رفض علي الراعي النظرة الأخلاقية للفن باعتبارها نظرة رجعية، خاصة مع زحف الثقافة الخليجية وانتشار الفكر السلفي، مؤكدا على أن غياب التنوع والجرأة والجماليات الفنية يعني كارثة حضارية، فقد كانت رؤيته العميقة للثقافة بصفتها جزءا من عملية تطوير المجتمع وتقدمه، وليست مجرد تأملات ضبابية، أو نماذج تربوية مشوهة، وربما ذلك ما دفعه إلى الرهان على الثقافة الشعبية باعتبارها تحمل جماليات إنسانية ذات خصوصية محلية وإقليمية، وكان ممن شاركوا في أحياء تلك الثقافة واعادة توظيفها في الأشكال الفنية الحديثة، حتى انه كان يرى في مسرح الارتجال مغنمًا كبيرًا للمسرح المصري ويدعو إلي أن يقوم مسرح الجيب أو الطليعة فيما بعد بهذا الدور، حيث يري أن على المسرح أن يوجه نشاطه التجريبي إلى البحث عن صيغة مصرية للمسرح، وقال إن هذه الصيغة يمكن تحقيقها بنجاح في الأقاليم وليس في العاصمة حيث البكارة والأصالة. وهنا يظهر تمثل الراعي وإيمانه الشديد بالوعي الشعبي والثقة في حصافته ونضجه، فهو يرى- مثلاً- أن الأرض العـربية لا تمنح الغذاء والنماء لجميع الأشكال الفنية على السواء. فهناك- على حد تعبيره- (فنون يجود زرعها في بلادنا، وأخرى تنمو نمواً متوسطاً، وثالثة تعيش على الهامش، ورابعة تموت ونحن نزرعها)، ويأخذ مثلاً على ذلك فن الأوبرا، ما أكثر ما حاولنا أن نمد له جذوراً بيننا، وما أقل ما حققته هذه المحاولات جميعاً من نجاح. (إن فن الأوبرا- في تقديره – مجاف لوجدان الشعب ولطريقته في الغناء والاستمتاع بالغناء، إن شعبنا يرى طريقة الأداء في الأوبرا مصطنعة وغريبة، وبعضنا يراها مضحكة، ومن العبث أن نحاول بالزجر أو الإهانة أو الاتهام بالتخلف، إقناع الشعب بقبول مالا يقبله). كان الراعي يرد بذلك على كلام بعض المثقفين، حيث كان قريباً جديداً من نبض الرجل العادي في الشارع بقدر ما كان يبتعد عن طموح صفوة المثقفين في تطعيم الفنون العربية بنماذج راقية ترتفع بمستوى فن الحركة الراقصة إلى آفاق موسيقية عالية، لقد كان الراعي ابن بلد أصيلاً في حماسه للفنون الشعبية، وسعيه لتنميتها تعبيراً عن الهوية الخاصة المحلية. ودائما ما كان يؤكد على أن نمو طاقتنا الإبداعية مرهون بهذه العناصر الشعبـية التي لا تحتل مرتبة دنيا في تقديره، بل لا تقل سمواً ولا رفعة عن النماذج العالمية العالية، فلو تخيلنا داراً كبرى للملاهي يعمل على أرضها القراد والحاوي ومسرح خيال الظل، ومسرح الأراجوز والمحبظون، لاستطعنا أن نحيط بالطاقة التمثيلية الكبرى التي تمتع بها أهل بلدنا قروناً طويلة قبل أن يفد المسرح الغربي إليها على أيدي فرق أجنبية عديدة، ثم في شكل فرق مصرية نبتت في بلادنا، منها مسرح الحلقة في أشكال متعددة، ومسرح الممثل الفرد الذي يقوم وحده بجميع الأدوار، ويجد تمثيلاً عادياً يتعدد فيه المؤدي ويشبه من قريب تمثيل المحبظين، كما يجد ألعاباً مختلفة للحواة والمشعوذين وغيرهم.
***
فُتن الراعي على المستوى الشخصي بنماذج فنية شعبية كثيرة، والتي يأتي على راسها شخصية المهرج، لأنه بجانب قدرته على الترفيه والإضحاك، إضحاك الكبار قبل الصغار، فهو يمثل دائمًا نوعًا من “ضمير” الأمة. إنه شديد الالتصاق بالفقراء وعامة الناس، يقوم بالدفاع عن مصالحهم، والتعبير عن آرائهم ومواقفهم، فعل هذا شابلن، ومنه التقط الريحاني شخصية المواطن المسحوق الذي يسعى لأن يكسب عيشه، ويدافع عن نفسه، وعن مصالح المحيطين به، ويهاجم أعداءه من الأغنياء الذين لا يستحقون النعمة التي يستأثرون بها دون غيرهم. وهذا كله يدل على دراما بشرية شعبية عرفتها الأقطار العربية في مصر والشمال الأفريقي قبل أن يفد إليها المسرح الغربي بوقت طويل. ويعتبر الراعي من أبرز الناقد الذين احتضنوا مفهوم الفن الشامل الذي بذره توفيق الحكيم في ثقافتنا المسرحية المعاصرة، بحيث يتوازن الجانب الأدبي للنصوص المقدمة مع فنون الممارسة العملية والمهارات الحركية والتعبيرية ذات العروق الشعبية الأصيلة. أن الحس الشعبي القريب من نبض الإنسان العادي كان يضمن لعلي الراعي البعد عن الأرستقراطية الفكرية المغرية في الجامعات والمؤسسات الرفيعة. كان مثل الحكيم يتباعد عن أوساط الناس محصّناً نفسه في الظاهر في برج عاجيّ يعصمه من لغطهم، بينما هو في واقع الأمر شديد الاندماج في وجدانهم، والتفاعل مع التيارات الحارة المتدفقة في حياتهم. وعندما اكتشف الراعي هذا العرق الذهبي في فن توفيق الحكيم الذي يجمع بين الفكر والفرجة كان يعبّر عن المثل الأعلى للفن لديه شخصياً. أما بالنسبة للتراث العالمى فكان الراعى يجد منجزات هذه الأشكال الفنية للفرجة فى عروض أعياد “ديونيروس” المسرحية فى العصر اليونانى وفى أعمال بلوتس اللاتينى وفى مسرح العصور الوسطى وفى مسرح شكسبير نفسه الذي قدمه لنا نقّاد في طبقة طه حسين ولويس عوض ومحمد مندور باعتباره خلاصة السمو الفكري والدرامي والأرستقراطية الشعرية الرفيعة، كـان الراعي لا يرى فيه سوى ممثل أصيل لفنون الفرجة المسليـة، فهـو على حد تعبيره قد استخدم كل فنون البهلوان والمهرج الشعبي وفنون (القافية) وجلسات السمر خاصة، كما استخدم تجاربه الكثيرة كممثل جوال وحرفي ومقاول لتوريد المتعة للجماهير العريضة، استخدم هذا كله في صياغة مسرحيات باقية، باقية لأنها تجمع بين الفرجة والفكر معاً، ولأنها تبدأ بالفرجة أولاً، كأساس لابد منه لبناء صرح الفن الشامخ الجميل. وبالنسبة للأتجاهات العالمية الحديثة فقد حرص الدكتور الراعى على أنشاء مسرح الجيب التجريبى ودعوة المخرجين لأكتشاف أحدث التيارات ( بمسرح العبث ) للكاتبين يوجين يونسكو وصمويل بيكت والمسرح الملحمى للشاعر الألمانى برتولد برخت والكاتب السويسرى دورنمات كمان كان له فضل أثارة الأهتمام بالمسرح الأمريكى الحديث للكاتب “يوجين اونيل” و”ارثر ميللر” و”تنيسى وليامز” والمسرح الوثائقى للكاتب الألمانى “بيتر فايس”. إضافة إلى الطقوس المسرحية القديمة التى حفلت بها مسارح الشرق الاقصى فى الهند والصين واليابان وأندونيسيا وفى الظواهر المسرحية فى جنوب أفريقيا.