اللعب في الطين

اللعب في الطين

أيمن جبر

اللوحة: الفنان الإنجليزي كونروي مادوكس

يحكي فيلسوف العرب “توفيق الحكيم” في كتابه “بين عصرين”: أنَّه عقب ثورة 1919 بسنوات قليلة، كان يدرس في باريس مع مبتعثين مصريين، أبلغت السفارة طلابَ البعثة المصرية أنَّ الملك فؤاد سوف يأتي إلى باريس بالقطار، وأنَّ عليهم التجمع أمام المحطة لتحيّته والهتاف له، وكان هذا يعني أنَّ المصريين الذين اندمجوا في باريس النور والحرية؛ عليهم أنْ يبحثوا عن الطربوش الأحمر الذي لا بد أنْ يرتدوه في حضرة المَلك، وكان أغلبهم ألقى الطربوش بإهمال بمجرد وصوله باريس.

وصف “الحكيم” هذا المنظر في مشهد هزلي؛ وكل منهم يهرع ليُدبّر لنفسه طربوشا؛ ثم احتشدوا بالمحطة وأغلبهم يرتدي طربوشا ضيقا لنصف رأسه، أو واسعا يغطي أذنيه، ومنهم من استعار طربوشا مغربيا بلا زِر، وامتلأت المحطة بالرؤوس الحمراء حتى وصل الملك وحيَّوه، ثم انفضوا إلى خارج محطة القطار ليستردوا حياتهم الباريسية. 

قرأتها وقد مر على هذا المشهد قرن كامل، وتساءلت؛ ما الذي تغير؟ من الذي يجب أن يتغير؟ 

وكيف تحملنا أنْ نظل على نفس الصورة قرنا كاملا؟ وإلى كم قرن سوف نظل على نفس الصورة؟

في يوم قال له صديقه “سعيد”: “سوف أريك أجمل فتاة في باريس”.، وذهب معه حيث يسكن بالفندق؛ وشاهدا من بلكونة الفندق المقابل لهما؛ فتاة شديدة الجمال وتكشف كثيرا من جسدها، أخبره أنها تسكن مع مواطن ياباني، دُهش كثيرا وسأله عما يجعل هذا الجمال الصارخ يسكن مع هذا الياباني، فهذه يجب ألا تصاحب إلا أصحاب الفخامة، قال له “سعيد”: “كله بثمنه”، وحكى له أنَّ هذا الياباني مُبتعث من دولته لغرض غريب؛ فهو لم يكن يدرس أي شيء ولم يلتحق بأي جامعة.

ولكن مهمته أن يتصيَّد أي كتاب يصدر في باريس في مجال محدد من العلوم التطبيقية، وأن يُترجِمه إلى اليابانية ويُرسله إلى اليابان، وكان يتقاضى من حكومته مبلغا كبيرا من المال يكفي للفوز بمصاحبة تلك الفتاة طوال الوقت.

وكان مجرد عِلم “سعيد” بهذه المعلومة؛ يعني أنها ليست مهمة سِرِّية، وعلم منه أيضا أنَّ هناك غيره من اليابانيين المُبتعثين لنفس المهمة؛ ولكن متخصصون في ترجمة كتب علوم أخرى.

في تلك اللوحتين التي صورهما الحكيم، نرى الفرق بين إلقاء المبتعثين المصريين في أمواج فرنسا المادية والقِيَمِيّة والفكرية دون رقابة أو هدفية، وكيف أنهم سقطوا في بحر العسل الفرنسي، فاستجابوا لمطاردة النساء وسقطوا في بحر الشك واستجابوا للتساؤل عن الإله، وفي المقابل قامت اليابان بمعرفة هدفها وإرسال مبتعثيها لتحقيق هدف اللحاق بأوربا والتخلص من التخلف.

في عام 1853م اكتشفت اليابان أنَّ عملتها الذهبية تُسرق وتُنقل لأوربا، فطردت الأجانب ومنعت التبادل التجاري، فحاصرت أربع سفن حربية أمريكية، خليج طوكيو، وأجبرت اليابان على توقيع اتفاقية تجارية، وبعدها بسنوات قليلة أجبرتها بريطانيا وهولندا وفرنسا وروسيا على اتفاقيات مشابهة للتبادل التجاري.

هذا الحادث كان التفسير للمشهد الذي حكاه توفيق الحكيم، فإجبار اليابان كان مُهينا، ولهذا كان الانتقام بأنْ أرسلت أولادها لبلاد الغرب وعادوا بكل شيء، وفي خلال عشرين عاما كانت اليابان قوة عظمى ولها أسطول ينافس الأسطول الأمريكي.

عندما أرادت اليابان تركيب مفاعلا سلميا للطاقة، استعانت بالخبرة الأمريكية، قامت بتعيين فني ياباني يصحب كل فني أمريكي كظله، تم تركيب كاميرات سرية في كل مكان بحيث يتم تسجيل كل خطوة، انتهى تركيب المفاعل، تعاقد اليابانيون بعدها على مفاعل آخر وتكرر السيناريو، رغم أنهم بعد المرة الثانية كانوا واثقين من قدرتهم على تركيب مفاعلا يابانيا، إلا أنهم تعاقدوا على المفاعل الثالث، بعد ذلك اكتفت اليابان في هذا المجال وأصبحت تُصَدّر خبرة المفاعلات النووية.

في مصر، في نفس هذا الوقت وإلى اليوم، عندما نريد بناء محطة كهرباء أو منشأة صناعية أقل تكنولوجيا من المفاعل النووي، نقوم بالتعاقد بنظام تسليم مفتاح، أي تقوم الشركة الأجنبية بكل شيء من مدني وميكانيكي وكهربائي، ربما تطور الوضع قليلا وأصبحنا نقوم بتجميع وتركيب وتصنيع بعض المعدات، لكن مازال الاستنزاف مستمر.

ولا نحتاج التذكير أننا إلى اليوم نستدعي مدرب كرة قدم أجبني لتدريب الفرق المصرية! ويتلقى راتبه الأسطوري بالدولار.

وفي ختام هذا الاستعراض نستطيع أن نقارن بين ردود أفعال الدول والشعوب؛ فهناك شعوب تلعب في الطين وأخرى تذاكر وتسهر وتضحي وترقى.

قامت اليابان مع أول هزيمة وقهر بإطفاء حريق التخلف ونهصت خلال عقود قليلة. بينما بلادنا العربية اندلعت فيها حرائق كثيرة متوالية ومع ذلك ما الذي فعلناه حين نشب الحريق الأول زمن الحملة الفرنسية!، وما الذي فعلناه حين نشب الحريق الثاني والثالث والعاشر!، ما الذي سنفعله حين تنشب الحرائق التي يطلق شرارتها الزمان كل فترة كي نفيق وكي نغير ردود أفعالنا؟ نحن نستدفئ بالحريق حتى اليوم ونُخَيِّم حوله ونتسامر.

رجال الدين والسياسة لم يكونوا مخلصين عبر القرنين الأخيرين. نحن فقدنا الإخلاص النبيل مبكرا. ومن المستحيل أن نخطو خطوة ناجحة بدون الإخلاص. فالنخبة يجب أن تكون واعية وليست خبيثة وليست عَبيطة.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s