كل واستغفر

كل واستغفر

 دعاء صابر

اللوحة: الفنان المصري عادل الليثي

– تفضل يا أستاذ معروف أدلِ بشهادتك

جلس الأستاذ معروف يضع كفا في أخرى مرتديا عوينات دائرية وطبقات متعددة من الملابس الشتوية الرثة:

– منذ حوالي سبعة أشهر، زاد سعر لحم البقر إلى حوالي ٤٠٠ كف للكيلو الواحد؛ لذلك توقفنا عن ابتياع اللحم من عم عزت الجزار الذي يقع دكانه على باب الشارع، وقررنا جميعا التوجه للحم الأبيض.

– أي أنكم استبدلتم لحوم الأبقار بالدواجن؟ 

ضيق معروف عينيه ثم صحح له: بل بالخبز الأبيض، سعر الدواجن قد زاد أيضا إلى نحو ٢٠٠ كف.

– ولمَ لم تتجهوا إلى الأسماك؟ 

بنفس العينين الضيقتين قال معروف: نحن نحب المعاناة!

لحظات من الصمت ثم أكمل: بدأنا نشتري الخبز ونجعله لقيمات صغيرة ونغمره في ماء نضع فيه مكعب من مرقة اللحم المصنعة، مرت أسابيع وما من أحد يطأ عتبة عم عزت الجزار، إلى أن وضع عم عزت لافتة تقول إن كيلو اللحم المجمد ب٥٠ كف، في البداية، لم يستجب أحد لللافتة اعتقادا منهم أن هناك صفرا ناقصا، إلى أن محا عم عزت الجزار الشك، ووضع لافتة أخرى كُتب فيها الرقم خمسون بالحروف بدلا من الأرقام مما لم يدع مجالا للشك.

بدأ الناس يتهافتون عليه في التو واللحظة، حتى أن البيوت قد سرقت في ذلك اليوم في وضح النهار؛ لأن سكان البنايات كلهم كانوا لدى عم عزت الجزار!

في البداية لاحظ الجميع تغير رائحة اللحم أثناء تحضيره، ثم لاحظوا تغيرا في طبيعة النسيج، ثم لاحظوا تغير الطعم، لذا فعلنا جميعا ما يجب أن يفعله أي شخص طبيعي في ذلك الوقت.

– وهو أنكم سألتم عم عزت عن مصدر اللحم.

ضيق معروف عينيه ثم قال بهدوء: بل استخدمنا الثوم والبصل والتوابل للتخلص من الطعم والرائحة، وطهونا اللحم فترات طويلة للتغلب على الطبيعة الجامدة للنسيج.. صمت قليلا ثم قال وهو يتذكر: في مرة ذكرنا بشكل عابر ما يواجهنا لعم عزت الجزار؛ فادّعى أننا قد نسينا اللحم الأحمر من كثرة ما لحس اللحم الأبيض عقولنا، ولم نعد نقدّر ال«زفر» في اللحم الحقيقي.

نظر للمحقق الذي لم يقل شيئا فضيق عينيه وأكمل: مرت شهور ثم جاء يوم جلسنا فيه في القهوة نتبادل أطراف الحديث، إلى أن جاءت سيرة اللحم الذي يبيعه عم عزت، الكل كان يعلم علم اليقين أنه ليس لحم بقر، ويعلم علم اليقين أنه ليس لحم حمير، ويعلم علم اليقين أن العلم عند الله!

دار نقاش حول إمكانية أن يكون لحم كلاب، ولكن أحدهم أفتى بأنه يعرف لحم الكلاب جيدا ويستطيع تمييز رائحته على بعد أميال، بالإضافة إلى أن الكلاب ما تزال تملأ الشارع.

رجحنا أن يكون لحم قطط، فأفتى آخر بأن لحم القطط لونه أبيض ويشبه الأرانب،

 بعدما تأكدنا جميعا أن شكوكنا في جميع الحيوانات قد خابت؛ هببنا من أماكننا، وتوجهنا نحو جزارة عم عزت، وأغلقنا باب الجزارة خلفنا.. ربطنا عم عزت في كرسيه، وأرغمناه على الاعتراف بنوع اللحم الذي يبيعه، ذلك اللحم الأحمر الرخيص المخليّ والمجمد دائما.

نظر لنا عم عزت برعب واستحلفنا قائلا: لا تسألوا عن أشياء إن تبدَ لكم تسؤكم، 

ضربه أحد الموجوين كفًا فحكى لنا:

ابنه يعمل سائقا على ميكروباص، في إحدى المرات صدم رجلا مسنا كان يعبر الطريق أمامه، جاء أمين الشرطة وأرغمه على دفع غرامة ١٢٥ كفًا وأن يأخذ الرجل إلى المستشفى، في الطريق، اكتشف أن الرجل قد مات بالفعل، لم يدرِ ما يفعل فتوجه نحو محل أبيه الذي قرر أن يجمد الجثة في الثلاجة بعد سلخها، على أن يقوم بتقطيعها ورميها للكلاب فيما بعد.

كان ضمير عم عزت يؤنبه لأنه ينوي رمي اللحم للكلاب، لذلك قرر في النهاية حقن الدماء، فأعطى اللحم للمساكين، وتبقى عنده كيس واحد فوجئ بزوجته تطبخه خطأ ذات مرة!

بعد الهناء والشفاء جاءت الفكرة لعم عزت، فأصبح ابنه يصدم الناس في الشارع ويدفع غرامة ١٢٥ كفًا على الرأس، ثم يأخذهم لأبيه الذي يبيعهم لحما للناس بسعر زهيد ليساعدهم على العيش. 

مع تكرر المحاضر التي يقوم بها الأهالي لدى اختفاء ذويهم، أصبح الولد يصدم المتسولين فقط؛ حتى لا يدخل في سين وجيم، وقام أيضا بتوسيع دائرة عمله حتى لا يكتشفه أحد.

حررنا عم عزت، وخرجنا من الجزارة ساهمين، كان معنا الشيخ محرم الذي كان يبدو ساهما أيضا ولم ينطق بحرف.. لأسابيع لم نعرف ما نفعل، جميعنا ساهمون لا نقوَى على أكل شيء، إلى أن جمعنا الشيخ محرم ذات يوم، وتلا علينا آية أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا؟

وهنا أفتى لنا بأن ذنب النميمة هو نفسه ذنب أكل لحم البشر، لذلك فما علينا سوى أن نستغفر الله ٣ مرات بعد الأكل، ونصلي للميت، وبذلك يُغفر لنا، وتحول حدث أكل لحم البشر إلى حدث ال نَمّ.

– ومن هنا أبلغتم عن عم عزت والشيخ محرم لاشتراكهما في جريمة الإتجار بلحم البشر؟

لم يضيق معروف عينيه لكنه قال في خيبة أمل: لا، لقد أبلغنا عن عم عزت لأنه رفع سعر اللحم، أما الشيخ، فأبلغنا عنه لأننا علمنا أنه أصبح يشارك عم عزت في ثمن اللحم على أن يفتي بجواز أكله.

– أبلغتم عن الرجل لأنه رفع سعر اللحم، وليس لأنه يتاجر في البشر؟ 

ضيق عينيه.. عم عزت القاتل كان ينهش في لحم الأموات، بينما عم عزت الطماع ينهش في لحم الأحياء.

رأي واحد على “كل واستغفر

  1. رائع. القصة مغلقة باحتراف وموهبة. الرمزية متقنة . الأسلوب بديع. ماشاء الله أتمنى المزيد من الإبداع

    Liked by 1 person

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s