فضائيات

فضائيات

هيام علي الجاويش

اللوحة: الفنان الأميركي جون برامبيلت

صديقي…

اسمح لي، إن كنت أتحدث عنها فلأن حالها حال معظمهن.. بعد انتهت أو ملّت أو تعبت ونام الأولاد.. جلست أمام التلفاز، جلست، ليس لغرام أو متعة أو لهدف, إنما جلست كي تقطّع بسكينها الصدئة تارة والمشحوذة تارة أخرى تقطع ساعات الملّل. 

وهو – وإن يكن – خرج منذ لحظات، فهي على تمام اليقين بأنه لن يعود إلاّ بعد ساعات طويلة، إذاً.. عليها قتل الساعات لا تقطيعها, إضافة لذلك فربما تستطيع أن تداوي وتحسّن وتجمّل وتبهج وتقوي وتغني، وربمّا تثري حياتها، فهناك الكثير والفارق كبير ومتنوع بين محطة وأخرى فهذه تداوي بالمجان, وأخرى لتفسير الأحلام, وتلك للصداقات وللدردشات وحتى للعرسان، وأيضاً منها ما هو للنجاح وللمال وللحمل ولتقوية الغرائز، وهذه لقراءة الطالع وتلك لمعرفة حركة الأفلاك وتأثيرها على العباد، أما هذه فقد تحوّلت إلى مطبخ.. وتذوق وتلّذذ عزيزي المشاهد.

أما تلك فتكاد تكون غرفة نوم لكن لم يجدوا متطوعين كما في حال الطبخ والطباخين.

برامج فكرية وفلسفية، ثقافية ودينية، رياضية وفنية، سياسية واقتصادية، طبية وتجارية وتاريخية، باحث من هنا وآخر من هناك, متطوع من هنا وأخريات من هناك، حتى تشعر وكأنك الوحيد الموجود في بيته وأن الحياة قُسمت عليهم ولهم و وأنت لم ينلك حتى الفُتاتْ.

تتحرك أصبعها مباشرة وبدون تفكير, فهي تبحث عن نوع محدد من البرامج.. وأية برامج؟

جمال بشرتك سيدتي..

كيف تحافظين على رشاقتك؟ 

كيف تكسبين قلب زوجك؟ 

كيف تحافظين على بيتك؟ 

ما أسباب الخيانة الزوجية؟ 

ما أسباب الطلاق؟ 

ما أسباب التباعد الفكري والنفسي بين الأزواج وكيف تعالجينه؟ 

ما أقصر طريق لقلب الرجل؟ 

وكله متوفر وبالمجان.

تنظر وتسمع وتتساءل: مَنْ حوّلها إلى سلعة ومستهلك في نفس الوقت؟ أهو الرجل؟ أم السكين المسلطة على عنقها؟ فيجب أن تكون جميلة ومكتملة الأنوثة وعالية التعليم ومكتملة الثقافة ورفيعة المستوى.. ودودةُ ومحبة..علاقاتها طيبة مع الجميع وخاصة الغث الرديء، وعندما يتقدم العمر بها، يجب أن تكون أصغر! لا شيب ولا تجاعيد،لا تعب ولا ترهل. 

ويجب تأدية واجباتها كاملة: زوجة.. أم.. عاملة.. وأياها من التقصير مهما تكن الأسباب، والويل, الويل لها إن كانت عاقرا, فحال الماعز والشجر أفضل من حالها, فلا ذبح ولا قلع.. إنما موت على موت، وفي جميع الأحوال والأوقات, السكين على الرقبة.. الخوف من احتلال قادم.

انتبهي.. تيقظي.. الاحتلال من نوعك وجنسك، وربمّا مُستضعفة مثلك، وسلعة أكثر منك، خيباتها أكبر من خيباتك.. معاناتها مثل معاناتك..آمالها أكبر من آمالك، وفجيعتها مثل فجيعتك.

قد يكون الاحتلال مباشر للأرض والجو.. وقد يكون غير مباشر للنفس والوقت، لكن كيف تحاربين احتلالا استقدمه هو؟ أليس تحدّياً له؟ وكيف تحاربين هذا الاحتلال مع الحفاظ على سلامته إذا كانت قواته مشاركة لقوات الاحتلال؟

إذاً.. حربك في ألا تقع الحرب، حربك الآن حياتك حياتك هي الحرب! دائماً.. كوني على المقاس.. كوني كثيرة الحركة والعطاء و قليلة الأخذ.. كوني كما يُراد لك أن تكوني, لا كما تشائين. عليك تغيير لونك، وأن تبدلي جلدك.. ولا تنسي تمددك وتقلصك، وكلٌ في الوقت المناسب. عينيك وفكرك على البوصلة.. إذا اختلت وانحرفت؛ غرق المركب.

إذا.. هي حرب, والحرب حربك، وهو في الضفة الأخرى يشاركك الماء والدم، الفراش والرغيف، البرد والجوع، الأمن والخوف، الحزن والسرور، الأمل والخيبة، لكما نفس الهدف، تنظران إلى نفس المكان، ولكما نفس الآمال، يشاركك النبض إن شئتِ، لكن لا, لا لن يشاركك الرأي والتفكير لن يشاركك الرصيف، وربمّا لن يشاركك نفس المصير.. هو على الضفة الأخرى, وينظر لأخرى!

إذا وقعت الحرب, أنتما الجيشان.. أنتما الخصمان.. فوزك يدميه وينال منه، وفوزه يوجعك وينال منك.. سلاحك وقوتك ونقطة ضعفك نفس سلاحه وقوته ونقطة ضعفه، قواتك.. قواته 

وهم الضحية، وعليهم أن يتحملوا نزعات الوالدين.

وتصرخ في داخلها.. أشاركك حزنك.. أحمل همك.. أسقم لمرضك.. أكله واجبات؟ ها أنا ذا إلى جانبك.. خلفك وأمامك.. أنا في كل الأماكن, لمْ لا تراني؟ أحدثك لا تسمعني؟ انظر إليّ، اسمعني، شاركني الرصيف والنسيم، الضوء والشمس، الدفء والحب، الصراخ والهمس، التعب والوهن، وجودي ووجودك.

وتعود من عالمها لتسأل ذاتها: منْ حولها إلى سلعة؟ وإلى أي حد تساهم هذه القنوات في تفريغنا من انسانيتنا؟ وإذا وجد الحوار, هل يكون ثمة داعٍ لأن تكون كل هذه البرامج؟ وإلى منْ يتوجهون في هذه البرامج؟ للمرأة فقط؟ هذا قد لا يكفي.. يجب أن يكون التوجه للرجل أيضاً, لأنها لن تحرز تقدما بمفردها، والرجل لا يشاهد مثل هكذا برامج، ومعه حق.

إذاً في هذه البرامج كما في كل البرامج مفردات جديدة وجرأة للطرح والكلام ورفض للموجود مع تقديم بدائل رديئة.

إذاً الذي يُقدم.. آمال مسكوبة ووصال مشروط ثم مقطوع.. وحبل ودّ دنيء.. ثورة على الجميع.. على نفسك وزوجك.. على أمك وأبيك.. على الولد والآلهة، وأنت مهيأ، مدجج بالغضب والرفض لكل شيء إلى درجة أن ترفض ما طلبته منذ قليل.

انتبه.. ممنوع أن يكون لديك ذاكرة، ويجب ألا يكون لديك رأي.. أعمل كذا وتصرف هكذا, قل ولا تقل.. ممنوع أن تفكر.. لا مجال للتفكير, كلها تعليمات وأوامر وتهديد بأنك أنت الخاسر إن لم تفعل «ويالله شو بعدك ناطر؟»

آن الأوان أن تغير حياتك.. إنها حياتك أنت لماذا تترك لغيرك القرار؟ حتى لوكان – كانوا – أقرب الناس لك, حتى ولو كنت قاصرا.. أنت تملك الجرأة والقوة.. إنها حياتك، ليس مهماً أن يكون تفكيرك سليما، أو أن يكون قرارك صائبا.. ليس مهما أن تكون راشداً وواعياً أو عاقلاً ومتعلماً، المهم أنك أنت.. وأنت يجب أن تكون صاحب القرار.. هيّا تحرر.. تحرر من نفسك أولاً، التحرر هو الهدف ومن ثم الأهداف الأخرى ستتحقق تلقائياً.

تنهدت.. تنفست وفكرت.. من الذي أفرغ حياتها كي تملأها بهذا الكم المتنوع المتناقض؟ ألسنا جميعاً شركاء؟ والحل ألاّ يحتاج للجميع؟  

أغلقت التلفاز.. ولم يتسنى لها أن تطبق أي وصفة، ولم تجري معه أيّ حوار مما رأت أو سمعت لأنها غطت في نوم عميق, نظراً لتأخره المفاجئ والذي يتكرر سبع ليالي في الأسبوع فقط، فإن كانت جادة فلتنتظره في باقي الايام، ثم ماذا ينقصها؟ لم كل هذه الفزلكات؟

4 آراء على “فضائيات

  1. “إذاً الذي يُقدم.. آمال مسكوبة ووصال مشروط ثم مقطوع.. وحبل ودّ دنيء.. ثورة على الجميع.. على نفسك” .. غني بالتعبيرات القوية واللوحات المتقنة والصور الناطقة.. تحياتي وتقديري

    إعجاب

    1. يوم في حياة إمرأة، صورة مفصلة لداخل المرأة.. ولم تخجل ان تتعرى امام المجتمع الذي ألقى فوق كاهلها كل الأمانات والادوار ويجب ان تتقن كل ادوارها والا نالت التوبيخ وتهمه التقصير. وتتكاتف كل هيئات المجتمع لرسم وتوجيه تحركاتها.. ما اصعب ام تولد انثى! وما اقسى ان تسير فوق حافة سكين طوال الوقت…
      أحسنت

      إعجاب

      1. شكرا لك على هذه القراءة العميقة
        هذا جزء من تشظيها بين ما تستطيعه وما لا تستطيعه وعليها القيام بجميع احمالها في حيز ضيق مليء بالالغام

        إعجاب

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.