صالح الرزوق
اللوحة: الفنان الألماني ماكس بيكمان
سمعت النفير في وقت متأخر. وعلمت أنه يدعونا للنشور. فقد اكتملت علامات الساعة منذ أيام. كانت أدخنة الحرائق تملأ الفضاء. ولو نظرت من النافذة ستشاهد ألسنة النار تندلع. ويمكن أن تلاحظ وجود أهرامات من النار المشتعلة. ارتديت ثيابي الخاصة وأسرعت بالخروج. ورأيت أن الجيران يغادرون أوكارهم أيضا. وكانوا يسرعون بالهبوط إلى الأقبية. فالقاعدة تقول أن الروح تغادر بمصاعد إلى أمكنتها في الأعلى.
أما نحن.
البقايا.
قشور سلم التطور.
ليس أمامنا خيار. يجب أن نتبع الجاذبية. إلى الأسفل. الأسفل فقط. ويبدو أنني في هذه العجالة ارتطمت بخيالي. وسمعته يتأوه من الألم. طلبت منه أن يتماسك حتى نصل. لكنه لم يتحرك. وقال: أليس لديك ضمير؟. روحك في هذه اللحظة تغادر بدنك، وأنت تتصرف مثل أي جزار. باغتني بهذا التوبيخ. والحقيقة لم يكن عندي وقت لجدل بيزنطي. للخيال منطق لا أفهمه. لذلك سألته: أرجوك اختصر. ليس لدينا وقت. ما هو المطلوب؟؟.
رد بإيجاز: الدواء.
وماذا يفيده الدواء الآن؟. قلت لنفسي. خلال لحظات ستنشق السماء عن قمرها الأصفر. وستغلفنا غمامة من الغبار. وسنكون عرضة للمصير الذي لا يمكن أن تتكهن به. أعطوني مثالا واحدا لشخص يعرف مصيره. كلنا نسير في هذه الحياة باتجاه هدف مجهول. من أيام كنت أنعم بالهدوء. أنام في أرجوحة منصوبة على الشرفة، وألهو بتقليب صفحات مسرحية هاملت لشكسبير.على فكرة هذا الأمير الدانماركي ليس مخبولا كما يصوره وليام. أقصد شكسبير. لقد كان يمثل. أليس الكتاب مسرحية. وهو جزء من واقعنا الدرامي؟!. لكن المشكلة أن أكاذيب المشهورين، أمثال شكسبير، تنطلي علينا جميعا..
نظرت بخيالي ورجوته أن يسايرني قليلا لأدفنه بطريقة لائقة، ووعدته أن نرقد في مدفن مريح وأنيق، وسوية. لكنه أيضا لم يتحرك. صمد في مكانه كالصخرة، وهو يندب حظه. وقال: قلبك جامد. أنت إنسان غير رومنسي. أقسم بشرفي أنك قتلت اباك لتحل محله.
يا الله!.
زأرت من أعماقي لأحتج على هذه التهمة. وهل أنا أوديب؟. لا يمكنني أن أرتكب هذه الغلطة الشنيعة. وقلت له: لو أنك تكرهني، حاول أن لا تهجوني بهذه الطريقة. عما قريب ستقابل ربك. ويبدو أنه شعر بالخجل، فقد احمر وجهه. لكن سرعان ما خاب رجائي. كان هذا اللون من أثر شمعة حملها أحد العميان، وهو يبحث عن طريقه إلى مرقده. ونظرت إليه باستغراب. أعمى ويحمل شمعة. ويبدو أن أفكاري فضحتني. فليوم الحساب تقاليد لم نكن نعرفها.
نظر لي، وفاجأني أن وجهه مجرد دائرة بلا معالم. كان بلا أنف أو فم. حتى أنه فقد أذنيه. وقال: إنسان غبي. هذه شمعة ديوجين يا جاهل.
وضحك خيالي من هذه الشتيمة. وقال: تستأهل. معلوماتك ناقصة وبحاجة لتحديث.
ثم عاد لأنينه. وعكفت على جسمه. فحصته بأصابعي. إنشا بعد إنش. ولم أجد شيئا يذكر. كان يشكو بلا سبب ظاهر. فسألته: هل يمكن أن تدلني أين الألم؟.
شحب لونه. ورفع نظراته لوجهي وقال: غريبة. ألا تفهم أنك جرحت كرامتي. وهنا فاض الكيل. وقلت له: كرامتك؟ كل هذا الوقت تشكو من جرح نفسي.
- وهل هذا قليل؟..
قال وارتفع أنينه حتى وصل لمسامع عائلة تدب في الشارع تحت ضوء النجوم. فقد كان الليل بأوله. والنجوم بالكاد تبحث عن مكان لنفسها في كبد السماء. وبدأ أفراد العائلة يلومونني على هذا التقصير.
قال الأب: لا يمكنك أن تخذله قبل القيامة بدقائق.
وأيدته الأم. ودخلت في نوبة من النواح. وسمعتها تقول: اللعنة عليك. هذه علامة تجلب لنا السخط. افعل شيئا. تصرف.واقتربت الابنة بدلال من خيالي. وأبدت تعاطفها معه. كانت جميلة مثل فراشة. والحقيقة خرجت من بين أكتافها ومن داخل قفصها العظمي فراشات فوسفورية. من نوع البوليغونيا، أو كما يسمونها: فراشة الملكة. وقالت له: يا لك من خيال ظريف. تشجع. سيزول ألمك بأسرع ما تتصور.
وشعر خيالي بالتفاؤل. وعاد شبابه إليه. وانتصب كأنه قضيب من الفولاذ. ووقف باستعداد إلى جانبي. وحينما تابعت العائلة طريقها. قال لي: هيا بنا.
فسألته: وهل شفيت كرامتك بكلمة من بنت؟. يا لك من فاسق.
ثم أردفت: يجب أن نعرف أولا رقم السرداب.
لكنه لم يلتفت لكلامي. انفصل عني. وشاهدته كيف يتساقط على دفعات. ويهرع خلفهم. ونويت أن أنبهه لهذا الخطأ. فالحشر يكون بمدافن مخصصة. ولا يمكنه أن يهبط مع تلك الفتاة الجذابة. فقد لا تكون من تبعية نفس البرج الخاص بنا. لكن انطلقت قذيفة من قوات المعارضة. وانفجرت بيننا. وارتفع جبل من الأبخرة.
هل هي سامة؟.
سارين؟.
كلور؟.
أم من أكاسيد الكبريت؟؟؟؟.
من يعلم؟.
لقد كنا، في كل حال أمواتا، في طريقهم للمقابر..