أيمن جبر
اللوحة: الفنان الألماني كاسبار ديفيد فريدريش
أتذكر وأنا صبي أنني زرت المقابر مع جيراني؛ وقفنا عند مقبرة عائلة صديقي، ومعنا الجد الأكبر الذي كان مدرسا لمادة الزراعة، كان للمقبرة باب مفتوح وعلى يمينه خلف السور شجرتان، أحدهما طويلة وسميكة ومنتصبة، بينما الأخرى قصيرة ونحيفة ومائلة، توجه الجد إلينا بالسؤال: “هل تعلمون أنني من زرعت هاتان الشجرتان في نفس الوقت!، من يعرف السبب في هذا التفاوت بينهما؟ ولما لم نستطع الإجابة قال لنا: “الشجرتان رغم أنهما متجاورتان خلف سور المقبرة من الداخل؛ إلا أنَّ الأولى كانت أقرب إلى المدخل، فكان يصلها من الشمس نصيب كاف يمنحها الصحة والقوة والنمو، والشجرة الأخرى لم تصل الشمس إليها؛ فأمْرَضها وأضعفها الظل.
زار “أنيس منصور” غابات كيرالا الكثيفة الأشجار في جنوب الهند، ورأى أشجارا مُعمّرة لعشرات السنين وشديدة الضخامة، ولكنه لاحظ أنَّ بعض الجذوع الضخمة تتلوى وتنحني لأسفل ثم تعود وترتفع مستقيمة، وأخرى تميل لأسفل حتى تلامس الأرض ثم تنحني لتنهض مستقيمة وكأنها تستدرك ما فاتها وتتجه لأعلى.
وتحير “أنيس منصور” من هذه الظاهرة المدهشة، وبعد تأمل اهتدى إلى أنَّ هذه الأشجار ما كان ينبغي لها أن تكون كذلك، فالطبيعي أنَّ نمو الأشجار عموديا لأعلى، أي متوازنة مع جاذبية الأرض ومعاكسة لها. في نفس الوقت يجب أن تتسابق في الصعود تجاه الشمس، ولكن هذه الأشجار حاولت وهي صغيرة أن تفعل ذلك وتنساق لقوانين الطبيعة، فاعترضتها أشجار أخرى ومنعتها من الصعود، فانحرفت الفروع وحاولت أن تجد مخرجا من هذا الضيق وانثنت، ومضت سنون وهي تحاول ولا تقدر إلا الانحناء للأسفل، وبمرور الزمن وزوال الموانع، وجد نموها الفرصة فاعتدلت واتجهت للأعلى في مسارها الطبيعي. ولكن الذي يرى الأشجار بصورتها هذه يقول: “مريضة ومنحرفة”، وحين يعود إلى تاريخها يجد لها العذر، لقد أُرغمت على الالتواء والانحراف، لأنَّ في تاريخها مُقدمات وأسباب انحرافها.
وقصة شجر الغابة تتشابه مع تاريخ الإنسان؛ فعلينا حين نجد انحرافا في الفرد أو المجتمع، أن نبحث عن تاريخ وجذور هذا الانحراف، نفتش عن سببه الخفي، ونضعه في مكانه من تسلسل الأحداث.
تذكرت خيباتنا المتتالية وتخيلت كل أفراد الشعب أشجارا هندية، وتساءلت؛ متى نستقيم للأعلى؟ ما الذي حُرمنا منه وبماذا ضُيق علينا وكيف قُهرنا؟
هل السلطة؟ هل المجتمع؟ هل أفكارنا؟ هل الأنا؟
حانة الشعراء 